ويخرجُ رجلٌ صالِحٌ من قانا الجليل د. خالد تركي – حيفا
- by منصة الراي
- December 19, 2022
- 0
- 691  Views
- 0 Shares
كان ذلك قبل تسعين عامًا حين خرج من قانا الجليل ذلك الرّجل الصّالح.
السّادس عشر من شهر كانون الأول من السّنة القادمة ستكون الذّكرى التّسعين لميلاد فؤاد الجابر في قانا الجليل، قانا مُعجزة الخمر، تلك المُعجزة الّتي حوّل فيها السّيّد المسيح عليه السّلام الماء إلى خمر ذي جودةٍ عالية، وبعدها أسقى جميع المدعُوِّين للعرس، فؤاد الجابر بميلاده وبمُعجِزته غيّر معادلة صعبة راهنت عليها الصّهيونيّة وعملاؤها من العرب في بلادنا، إذ أنار بفكره طريق مئات الآلاف من جماهير شعبنا، بعد أن أسقاهم خمر العدالة الاجتماعيّة، فتبعوه. فكان ورفاقه ملح الأرض ونور العالم. إذ وقف لهم على الحدّ وبالمرصاد وفي الزّاوية ليكون حجرها لبناء هذا الصّرح الجماهيري من عمّال وفلاحين ومثقّفين ثورييّن وطلبة وأُجَراء وأكاديميين وصغار الموظّفين وفئات شعبيّة كادحة أخرى.
السّادس من شهر آذار من السّنة القادمة سيتذكّر رفاق النّاصرة والجليل وجميع رفاق الحزب في الوطن مرور أربعين حَوْلاً على عملية خطف أبديّة، إذ خطفت يد المنون طيّب الذّكر الرّفيق فؤاد جابر خوري، وهو في عزّ عطائه وربيع شبابه، اختطفته وهو في أعلى مراحل نضوجه السّياسيّ الغنيّ بالتّجارب وبالرّصيد النِّضالي. وكأنّ يد المنون كانت قد تواطأت مع قوى الشّرّ من الرّجعيّة العربيّة والصّهيونيّة في بلادنا.
ثلاثة وعشرون عامًا عاشها شيوعِيًّا متفانيًا، مُضَحِّيًا ومُناضلاً، مطرودًا من سلك التّعليم لفكرٍ مُنيرٍ حمله، فقد أبّنه رفيقه في الحزب الشّيوعي، منطقة نابلس، الاستاذ رشدي شاهين، زميله في الدّراسة في الكُليّة العربيّة المقْدِسيّة قبل الاحتلال، والّذي منعته قوّات الاحتلال الاسرائيلي من حضور الجنازة في النّاصرة، وقُرِأت نيابةً عنه: إنّ الحياة دون نضالٍ لا قيمة لها ولا طعم، وغاية الغايات للمناضل أن يموت مُناضِلاً، وقد وصل فؤاد خوري إلى هذه
الغاية، فهنيئًا له.
كان مُناضلاً، ومُعلِّمًا ومَعْلَمًا في النِّضال، طالِبًا أنهى علومه العالية في الكُليّة العربية في القُدس، يذكرُ رفاقُه وِقفتَهُ، في شهر شباط من سنة الاختطاف في اجتماع لنشيطي الشّبيبة الشّيوعيّة في مِنْطقة النّاصرة هاتِفًا: أنتم أملُ الحزب، أنتم مستقبلُهُ، أوصيكم بالدِّراسة وتحصيل العلم والمعرفة، ولا تنسَوا ربطَ العلمِ بالعملِ، على الشّبيبةِ تقعُ مسؤوليّة كُبْرى في إنجاح معارك الحزب والشّعب بأسرِهِ لتغيير هذه الأوضاع.
أربعون حولاً وذكرى أبي جابر في ضمير ووجدان كلّ رفيق عاش وعايش فترته أو عاش بعده وسمع عنه من رفاقه أو منعائلته أو حتى من عامّة النّاس. لن ينساه التاّريخ المجيد الّذي صنعه ولن تنساه جغرافية الوطن، فتضاريس الوطن ومعالمه ما زالت تحفظه عن ظهر قلب وتذكر له جميله في وقفته وفي خطواته وخطاه عليها منتصِبًا ومرفوع الهامة في النّاصرة والجليل، وأمام حاكمها العسكري وأمام جنده وفي المنفى، وفي مظاهرات الشّيوعييّن الّتي كانت تجوب شوارع النّاصرة، حين كان الشّيوعيّون وأصدقاؤهم الوحيدون في ساحة النّضال والصّمود والتّصدِّي والبقاء عزيزِين في أرض الوطن. كانوا المُناضلين الوحيدين ضِدَّ سياسة الاضطهاد القومي ولصَدِّ هجمات سلب “قانونيّة”، من مصادرة أراضي إلى إلغاء ملكِيّتها إلى قانون الحاضر غائب، من أجل إلغاء الحُكم العسكري وتأمين الحقوق للعرب في المُساواة التّامّة للعيْشِ في وطنهم الّذي لا وطن لهم سواه بكرامة وشهامة وعِزّة نفس ووفاء ونبل، فقد وُلِدَ هذا الشّعار قبل ادِّعاء شعار دولة جميع مواطنيهابعشرات السّنين، هذا الادِّعاء الّذي رُفِع في تسعينيّات القرن المُنصرم وكأنه مولود من ذلك المُفكّر.
لقد رأى صِحّة الثّنائيّة الواحِدة المُتكاملة والمُتجانِسة والمُنسجِمة بين الحزب
الشّيوعي والنّاصرة، رأى بوضوح أنّ الحقّ في الاختلاف شرعي أمّا الحقّ في
الخلاف فهو باطل لآنّه يؤدّي الى الثّنائيّة المتنافرة والمُتصارِعةالمؤدّية إلى مطبِّ حصان طُرْوادة، فحين وقف كالطّود مُفتَتِحًا حملة الانتخابات لبلديّة النّاصرة، في العام 1953، حيث فازَبعدها بعُضويّة مجلسها البلدي، قال: إنّ الحزب الشّيوعي أيّها النّاصريون هو ابن النّاصرة الّذي يُمثّل وحدتها، وحدة صفوف عُمّالِها وجميع شُرفائها. إنّ حزبنا هو حجر الرّحى للوحدة الشّعبيّة.(والمعنى أنّ الحزبالشّيوعي هو هو سيِّد الوحدة الشّعبيّة خ.ت.). ويتابعُ قائلاً ومُخاطِبًا النّاصرييّن: بدون الحزب الشّيوعي لا تقوم وحدة شعبيّة، وبدون الوحدة الشّعبيّة يضيع أثر النّاصريّين.
بعدها قدّم أبو جابر اقتراحًا لتأليف الجبهة الشّعبيّة لتخوض الانتخابات في النّاصرة في جبهة موحَّدة ومتَّحِدة، قائمة على برنامج مشترك واحد، يكون أساسه النِّضال لرفع كابوس الحكم العسكري والاضطهاد القومي بجميع أشكاله.
لقد كان من أوائل الّذين اقترحوا على الحزب الشّيوعي في النّاصرة تأليف الجبهة الشّعبيّة من خلال خطابه في المهرجان الشّعبي حين قال مخاطِبًا: في طريق الشّيوعييّن نسير نحو التّغيير الأفضل. بالوحدة النّضاليّة مع الشّيوعييّن يجدُ كلُّ انسانٍ شريفٍ مكانه الشّريف في النّضال الصّادق والشّريف.
أتذكّرُ صورة أبي جابر على غلاف ذلك الكتاب الّذي أصدره حزبنا الشّيوعي في شهر تَمّوز من العام 1968، كنتُ حينها في العاشرة من عُمري، تحت عنوان “إبن النّاصرة، فؤاد جابر خوري” وحين أرى الجماهير المشيِّعة مُصوَّرةً ومُخلَّدة بصُوَرِها ومُخَلِّدةً بحضورِها قائدها، أشعر أنّ كلّ جماهير وطننا قامتعن بِكرة أبيها مشيّعةً ومُعَزّيَةً. حين أرى تلك الصّور أذكروأتذكّر تلك الجنازة الكُبرى للرّئيس العربي الخالد، قائد ثورة تَمّوز جمال عبد النّاصر. حيث كتبت هيئة تحرير الكتاب آنذاكعن الرّفيق فؤاد خوري: وهكذا ستبقى ذكراه نارًا مُتأجِّجةً، تُبدِّدُ ليْلنا وتحرق الحطب الجافّ في طريقنا.
كان الكِتاب على رَفِّ مكتبة والدي أبي خالد محفوظًا في مكان آمنٍ كالكنز، قال والدي: يجب أن نُحافظ على هذا الكتاب لأنّه يروي سيرة رجلِ الرِّجالِ
ورفيقِ الرّفاق، هذا هو تاريخنا فحافِظ عليه كما تُحافظ اللبؤة على شِبلِها.
اختطفته يد المنون بعد مرور تسعة أشهر من احتلال إسرائيل لباقي الوطن، احتلّت الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة مضيفةً إلى احتلالها الجولان العربيّ السّوريّ وشبه جزيرة سيناء المصريّة، حينها اعتقلته ورفاقه الشّرطة، وكان هذا اعتقاله الأخير، وزجّت به سجونها والسّبب واضح موقف الرّفيق من الاحتلال، واخلاصه لشعبه ودفاعه عن موقف حزبه الشّجاع من الحرب، الّذي كان الموقف الجريء الوحيد على السّاحة السّياسيّةالمُناهض للإحتلال.
لقد كان مدرسةً خرّجت أجيالاً ثائرة وأعلامًا من شُعراء المقاومة فقد أبّنه طيّب الذّكر توفيق زيّاد قائلاً: أنا وكثيرون غيري، من الواقفين هنا ومن غير الواقفين هنا، عرفنا طريقنا ونحن على مقاعد الدِّراسة، على يدَيْكَ وعلى أيدي رفاقٍ لكَ. تلك أيّام لا تُمحى ولن يقوى الموت على انتزاعها من الذّاكرة. علمتنا الكفاح من أجل انتصار الحياة.
لقد كان رأس الحربة صاحب القوْل الفصل في احد مهرجانات النّاصرة: وحجّة أن “العين لا تقوى على المخرز” قد فنّدها النّاصريّون الّذين بنضالهم المُتراصّ الصّفوف، أنبتوا للعينِ ظِفرًا ونابًا. ويتابع خطابه: لو سار النّاصريّون وراء “العُقلاء” أو بالأحرى لو قعدوا لا يُحرِّكون ساكِنًا بانتظار الفرج الّذي يأتي من “الواسطات” و”تقبيل الأيادي” و”الاعتماد على الحائط الواقف” لكان النّاصريّون منشغِلين اليوم، لا بالتّحضير للانتخابات البلديّة، بل بالرّحيل.
لقد صمد الشيوعيون ومن صمودهم صمد حزبهم في وجه كلّ تعسّفٍ ومنْعٍ
وأسرٍ وشَبْحٍ وتعذيبٍ وانقسامٍ ونفيٍ وربحت جماهيرُنا واليسارُعمودَه الفقري، الحزب الشّيوعي، الذي لم ينحرف ولن ينحرف،لم يلتوِ ولن يلتوِي، مهما كانت الشّدائد ومهما كانت التّضحيات.ويبقى الخيار الصحيح هو الخيار المسيْطر بالوحدة المُتراصّة والوعي الفكري البنّاء فبدون التّسلّح بفكر أو عقيدة لن تكون لنا جبهة ولن يكون لنا حزب ولن يكون لنا مستقبل.
بموت أبي جابر ماتت حبّة قمحٍ من سنبلةٍ ناضجةٍ ودُفِنت في أرضٍ طاهرةٍ شريفةٍ ناصريّةٍ مُقدّسةٍ ملأت مرج ابن عامر والجليل والسّاحل الشّامي والمثلّث وصحراء النّقب سنابلَ ملآى تُغذّينا وتُشبعُنا، تُقوّينا وتُفيدنا، لأن السّنابل الحيويّة ترفضأن يكون الزّؤان بينها والزّؤان يُجمع ويُقذف في أتون النّار.فإذا كان بيننا زؤان لنرمِه في أتون النّار حالاً قبل أن يتكاثر ويُصبح ظاهرة تسيطر على فكرنا وأدائنا، لأنّ الشّيوعييّنمستهدَفُون دائمًا.
أستحضرُ أبا جابر اليوم لفِطنتِهِ ورؤيته المستقبليّة وكأنه كان يشعر ما يحملُهُ الطّالع لشعبنا ولحزبنا، فقد كتب في صحيفة “الإتّحاد” (7/2/1958) بعد مرور عشر سنوات على نكبة فلسطين: “يُصرُّ الحكّام على مجلس النّاصرة بأن يُشرف على تنظيم “احتفالات” الاستقلال بمناسية مرور عشر سنوات على قيام اسرائيل. وبينما كانت الحكومة تكتفي من رئيس البلديّة في السّنوات الماضية بأن يُقيم حفلة ليليّة ويُلقي كلمة “مناسبة”، نراها في هذه السّنة تسعى جاهدة لسَوْق المجلس إلى تأليف لجنة عامّة تقوم بتنظيم الاحفالات تحت اشرافه. فإنّ الحكومة تطلب من المجلس البلدي تزيين المدينة بأنواع الزّينات ودعوة السّكّان والمُنظّمات والمدارس إلى الانهماك في مظاهر الابتهاج والاحتفال لينطبق عليهم قول الشّاعر العربي “كالطّير يرقُصُ مذبوحًا من الألم”. إنّ الجماهير العربيّة تذكر في هذه المناسبة المآسي الدمويّة التي أحاطت بالشعب العربيّ الفلسطيني سنة 1948، إنّ المواطنين العرب في إسرائيل يعانون، فوق هضم حقوقهم القوميّة، هضم حقوقهم المدنيّة. إنّ سَوْق هذه الجماهير العربيّة للاحتفال والابتهاج ليس إلاّ سَوْقها إلى الرّياء والكذب، فكيف تستطيع تجريد نفسها من الواقع المرّ والرقص على قبور ضحاياها وأنقاض حقوقها المهضومة.
والحُكّام يسعون بكُلّ قواهم لاستخلاص “شهادة حسن سلوك” من الشّعب العربي في اسرائيل لجَلاده. طيلة السّنوات الماضية يسعون لطعن كرانة الشّعب
العربي وتسخيره لمحو جرائمهم بأيْدي أبنائه. ويقول حكّام اسرائيل لعرب البلاد: ابتهجوا واحتفلوا فهذا اليوم يوم عيد عام، وإن كانت لكم حقوق مهضومة ومظالم فليس هذا وقته. إنّها “خلافات بيتيّة”. ومن المؤسف حقًّا أنّ الحكّام يجدون بعض المُتَملِّقين المارقين.
لنُحافِظ ولنحفظ تراثنا برمش العين ونحميه من غدرات وعثرات الزّمان، ولتكن السّنة القادمة، سنة طيّب الذّكر فؤاد جابر خوري، ولندعُ جميع كوادرنا وجماهيرنا لإحياء ذكرى أبي جابر بالاشتراك في النّدوات والأمسيات والمهرجانات ولنُبادر إلى إقامة لجنة وطنيّة لحماية تراث أبي جابر الأصيل وليُجمع ما كتبه من مقالات فكريّة، نظريّة وخطابيّة وتاريخيّة ليكون مرجِعًا للأجيال القادمة، تليق به وبفكره وبمن والاه، حتّى لا ننسى أمّنا ورحْمَها وحتّى لا ننسى حاضِنتنا وحِضْنَها، حتّى لا ننسى حزبنا.
وفاؤنا وتكريمنا للمناضلين الشّرفاء يجب أن يكون بمواصلة المسيرة والنّهج والفكر بنفس الشّجاعة والبأس والتّضحية الّتي كانت.