آذار في فلسطين ، أسيرات وأحلام ودماء جواد بولس

يواصل الاحتلال الاسرائيلي اعتقال (29) أسيرة في سجن “الدامون” الواقع على جبال الكرمل قرب حيفا، أقدمهن هي الأسيرة ميسون موسى من مدينة بيت لحم والمعتقلة منذ العام 2015 والمحكومة بالسجن الفعلي لمدة (15) عامًا؛ ومن بينهن فتاتان، نفوذ حماد من القدس وزمزم القواسمة من الخليل التي أتمت عامها الثامن عشر قبل عدة آيام فقط. يبلغ عدد الأسيرات المحكومات (15) أسيرة. وحسب المعطيات الواردة من مؤسسة “نادي الأسير الفلسطيني” فأن أعلى الأحكام صدرت بحق الآسيرات شروق دويات وشاتيلا أبو عيادة المحكومتين بالسجن لمدة ستة عشر عامًا وعائشة الأفغاني المحكومة بالسجن لمدة ثلاثة عشر عامًا. ويوجد من بين الأسيرات أسيرة واحدة معتقلة إداريًا وهي رغد الفني من طولكرم، وكذلك يوجد بينهن سبع جريحات تعد حالة الأسيرة اسراء الجعابيص أصعبها. كما ويوجد بينهن ست أمهات. 

لهؤلاء الأسيرات ولمن سبقهن على دروب النضال ولجميع الامهات المضحيات، ولسيّدات العطاء والوفاء ولجميع الأسيرات في عقول مجتماعاتهن أقول: قد يكون آذار أجمل الشهور في فلسطين، ففيه تطلق الأرض جدائلها وعلى صدورها ينهد اللوز ويسبح في عيونها القمر؛ وفيه تشهر فلسطين أنوثتها: جبالًا حبلى بالغضب وبالنرجس وبالأمل، ونساء يجدلن على زنودهن أحلامهن ومن خواصرهن تندلق الزغاريد وينطفىء الوجع. 

فلسطين، في آذار، تحتفي بنسائها بطقوس وبعقول ملتبسة حتى العبث؛ فالبطولة في هذا الشهر تستعيد تاءها المربوطة وتصير أنثى، والدمع ينحسر في أحضان الحسرة، والجميع يردد أن الوطن أم وزوجة وأخت وشهيدة ومناضلة، بيد إن الواقع يبقى في عقول الناس مذكرا والعيب لا أب له، فهو دومًا يولد بين ساقي الأنثى. فلسطين، كل فلسطين، تبقى ولّادة للرياحين ولحاملات بيارق الرأفة والحنان، لكنْها تنام، منذ طلوع الدم من “بئره المقدسة”، وهي أسيرة  لأحكام “سيّافي الشرف، ومطوّعي الحشمة” الذين ، كلما استلوا خنجرًا ودقوه في   عنق زنبقة فقط لأنها “طلعت على الريح، طلعت على الشمس” وصلّت في قلبها “يا حريّة يا زهرة نارية يا طفلة وحشية، يا حرية”، يذكروننا من أين أتينا وكيف يصر الرمل، جدنا القديم ،أن يثأر لجيناته وأن ينتقم ممن يخرجن من “هيبة” عباءات أسيادهن وعن طهارة النسب والحسب. 

لا أتجنى على أحد حين أكتب عن واقع مجتمعاتنا العبثي؛ فلن تخلو قرية أو مدينة في هذا الوطن، من قصص الضحايا اللائي دفعن حيواتهن قرابين على مذابح الجهل والتخلف، أو، إن شئتم، دفعنها ككفارات باسم قيم سائدة ومسلّمات اجتماعية تجيز هدر دمائهن “دفاعًا” عما يسمى شرف العائلة، وثمنًا لاحلامهن المحظورة؛ فحتى أحلام البنات في مجتمعاتنا أعباء عليهن أو قاتلة أحيانًا. لن ينفعنا انكار الحقيقة الدامغة، فمهما كان آذارنا في فلسطين أخضر بنكهة الطبيعة، سيّدة البدايات والنهايات، تبقى حكمة الشرف الدموية هي الحكمة السائدة.  فآذار ما زال كما كتب ذلك الفتى، الذي حدثتكم عنه قبل عشرة أعوام، حين جلس على شرفته وأخبرنا أنه يحب “من الشهور آذار ولا أبحث عن سبب..”. فصاحبي هذا كان يحلم، إلى أن جاءته أمه بخبر مقتل بنت جيرانهم “صبرة”. 

يومها ، هكذا أخبرتكم، “لم ينم كما تعوّد. دخل فراشه مبكّرًا. تمتم صلاته بسرعة ككاهن قرية معجوق، يأكل نصف حروف الكلمات وكأنه يقوم “بتهريبة خطيرة”. كان يتحرك  في البيت بخفة دوري. وكانت سعادته تتدحرج أمامه كحجلة وتملأ زوايا البيت حيرة وفضولًا. حاولت أمّه أن تفهم دواعي هذا الفرح الراقص، لكنّها نالت، في كل مرّة سألته، قبلة شقيّة منه ومداعبة طفولية. شعرت براحة خفيفة وفكرت بصمت وتمتمت, “هذا الولد كِبِر”،  وكأنها تراه للمرة الأولى وقد شارف على إنهاء تعليمه الثانوي في آذار ذلك العام.

أفاق قبل جميع إخوته. أنهى حمّامه وحاول أن يختار ملابس يومه. كانت،  في العادة، لا تستغرقه هذه العملية إلّا بضع دقائق، أمّا اليوم فلقد كانت “ورطته” ظاهرة. اختار طقمًا ووقف أمام المرآة دون أن ينتبه أن عينيه كانتا تضجان بالقلق. اقترب من المرآة وقام برفع كفّه اليمنى بعياقة ومسّد شعره ببطء وتبسّم للرجل الذي قبالته. بدت على وجهه علامات الرضا أو حتى الاعتزاز. رش ما وجده في قارورة عطر كانت في الخزانة ورفع إبطه وحاول أن يشمها، ليتأكد أنه ذلك العاشق الجدير بشمس أذار ذلك النهار . كانت أمه تراقبه من بعيد فتنهدت وتأكدّت أن في بيتها رجلاً.
أنزلته سيّارة الأجرة في مركز المدينة القريبة من قريته. مشى مسافة قصيرة ووصل إلى المقهى الذي اتفق وحبيبته أن يلتقيها بها. اختار مقعدًا جانبيًا وتأكّد أن عطره ما زال فوّاحًا وأن قميصه مفتوح من الأعلى ويكشف جزءًا من ربيعه.
شعر بغربة طفيفة في المكان. كانت معظم الطاولات خالية، إلا من طاولة في الزاوية المقابلة لطاولته كان يجلس اليها رجلان يتهامسان. كانت ملامحهما شرقية، لكنهما كانا يتحدثان بالعبرية.

نظر الى ساعته فاشتد خفقان صدره. رفع عينبه ونظر من خلال الزجاج فرآها تمشي على الرصيف المقابل، واثقة كغزالة. كانت تلبس بنطالًا أسود وفوقه يتدلى طرف قميص بلون السماء مفتوح وتحته سترة بيضاء بلون الفل. كان وجهها قمريا على طبيعته. قطعت الشارع فوقعت عيناها مباشرة على عينيه. تبسّمت بحذر فكاد، لولا قحة أحد الجالسين، أن يفقد وعيه.
دخلت كفراشة. حيّته ومدّت كفّها نحوه، فأخذها برفق كأنه يكمش حفنة من قوس قزح. تحدثا عن أحلامهما في الليلتين الأخيرتين، وعن كيف لم ينما. ضحكا عندما وصف كل واحد منهما كيف “أكلا” نصف الصلاة  قبل النوم. لكنّهما كانا مقتنعين بأن الرب سيغفر لهما لأن “الله محبّة”، ويحب الحب والمحبين والحياة.
لم يحاول أن يمسك كفها مرّةً أخرى، لكنه كان يستنشق أنفاسها ولا يخرجها. قال لها كم يحبّها ويحب لون عينيها. كان كلامه مقطعًا وغير مباشر، لكنّها، في لحظة ما، أغمضت عينيها، لم تطبقهما تمامًا، ورفعت رأسها برضا وقامت بحركة جعلته يشعر بفقدان توازنه. قضيا في المقصف ساعتين كاملتين. تواعدا على لقاء آخر عندما ستسمح بذلك الظروف. 
كانا على باب المقهى عندما اعترض رجل طريق الفتاة طالبًا هويّتها. كان ذلك هو الرجل الذي جلس في الزاوية. أفهمها أنه رجل مخابرات إسرائيلي. وأنه يريد أن يتعرّف على هويتيهما. حاول أن يهدىء من روع الفتاة والشاب واعدًا إيّاهما بالكتمان وعدم اخبار عائلتيهما؛ فهو يعرف أن مثل هذه الحادثة، خاصة إذا دعّمت بالصور، من شأنها أن تحدث كارثة وتودي بحياتيهما.
“كل ما نريده اليوم “، هكذا “طمأن” هذا المتطفل تينك الزهرتين “أن نسجّل تفاصيلكما وأن نتفق متى ستعودان  إلينا لنسوي أمورنا المشتركة، فمكاتبنا قريبة من هنا، وكل شيء سيكون على ما يرام”.  

لم يتفوّها بأية كلمة، أبرزا بطاقتي الهوّية وحاولا أن يتملّصا من الموقف. لكنه كان وقحًا ومتمرّسًا في صيد ضحاياه. أصرَّ على تسجيل التفاصيل وبدأ يصعّد من لهجته فشعرا أنه يحاول تهديدهما. حاولت الفتاة أن تفهمه أنها ليست خائفة وأنها جاءت الى لقائها برفقة أخيها الذي يحترم علاقتها مع هذا الشاب. حاولت أن تشرح له دناءة ما يقوم به فصار شريرا وهدد باحتجازهما في مقره. في هذه اللحظة، في الوقت المحدد، ظهر اخو الفتاة  فتوجّه مباشرة إليهم واحتضن أخته وطرح السلام على رفيقها. عرّف على نفسه وخيّب ظن تلك الشياطين اللعينة. 
كانوا يسيرون في الشارع، والفتى يشعر أنه يطير بأجنحة من ورد وأن حبيبته تطير إلى جانبه وتحتهم أبسطة من بساتين خضراء وأسراب فراش. كان يسمع دقات قلبها ويداري خصلات شعرها الذي كان يتطاير على وجهه، ثم..
ضربة، ضربتان فهزة عنيفة على كتفه، فتح عينيه وكان وجه أمّه فوق أنفه، كانت غاضبة كما لم يألفها من قبل. “ماذا بكِ؟ اليوم عطلتي ولا يوجد مدرسة فلماذا أفيق مبكّرًا؟”سألها محاولًا العودة الى حلمه.
بغصّة واضحة في حلقها قالت: “لقد وجدوا “صبره” مقتولة بطعنات خنجر. نعم هي ابنة صاحب الفرن، وقالوا أنها قتلت بسبب “شرف العائلة”، لم أفهم يا أمي من القاتل وليش ولكنها مصيبة .. الله ينجينا وينجيكم يا حبايبي”.
صحا الفتى مذعورًا وجلس على شرفته وكتب: “أحب من الشهور آذار ولا أبحث عن سبب، فأجمل الحب ذلك الذي يكون من غير سبب. آذار شهر التردد والتقلّب؛ ففيه الصفاء كما يحب شجر اللوز، وفيه الغبار كما يعشق السرو”. أغمض عينيه عساه يعود الى الطاولة مع حبيبته، ثم فتحها وكتب: “يصله الشتاء متعبًا كثور الحلبات وقد أنهكته سهام “المتادور”. آذار في بلادنا كالوعد الغافي وراء جبال الغيم، يصحو ليعلن أن البقاء للحياة وليقهر الظلّام ودعاة الموت؛ ففي آذار، يولد الأمل وتزهر الرياحين “. كتب وبدأ ينتظر لقاءهما المقبل.

فلكنّ، في آذار وفي كل يوم، الفرج والسلامة والفرح والحب، والحرية فخذوها و”صَرّْخوا عالعالي، على العالي، اركضوا بالحقالي، على العالي، قولوا للحرية نحنا جينا وافْرحوا، افرحوا، يا ليل يا حب يا دروب يا حجار الحقونا عالشجرة البرية..”  

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*