كي لا تسقط قلعة الاحرار، قلعة الحركة الاسيرة – جواد بولس
- by منصة الراي
- September 1, 2023
- 0
- 299  Views
- 0 Shares
سأبدأ مقالتي بتزويد القاريء ببعض المعطيات حول الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الاسرائيلي؛ في محاولة مني لتقريب واقع هذه القضية الحارقة الى القراء وكي لا يبقى الحديث عنهم مجردًا ومطلقًا.
يقبع في هذه الأيام داخل سجون الاحتلال حوالي (5100) أسير فلسطيني موزعون على ثلاثة وعشرين سجنًا ومركز توقيف وتحقيق. من ضمنهم (32) أسيرة تقبعن في سجن الدامون القريب من مدينة حيفا و (165) طفلا وقاصرا موزعون على سجون “مجدو” و”الدامون” و”عوفر”؛ أما فئة ما نسميهم “بالأسرى القدامى” فعددهم (22) أسيرًا، أقدمهم هو الأسير محمد الطوس المعتقل منذ العام 1985؛ وبالاضافة اليه فإن هنالك (11) اسيرًا من محرري “صفقة الاحرار” وهم الذين أعاد الاحتلال اعتقالهم مرة ثانية، علمًا بأنهم كانوا في الأصل قد اعتقلوا قبل اتفاقية أوسلو، وحُرروا ضمن صفقة تبادل في العام (2011) ، ثم اعاد الاحتلال اعتقالهم في العام (2014)؛ ويعدّ أبرزهم الأسير نائل البرغوثي الذي يقضي أطول فترة اعتقال في تاريخ الحركة الأسيرة بواقع دخوله، قبل مدة وجيزة، عامه الـ (43) ، قضى منها في السجن بشكل متواصل مدة (34) عامًا. ومن بين الأسرى (558) أسيرا محكومون بالسجن مدى الحياة؛ ويبلغ عدد شهداء الحركة الأسيرة (237) شهيدا منذ العام 1967 بالاضافة الى مئات الاسرى الذين استشهدوا بعد تحررهم، متأثرين بأمراض أصيبوا بها خلال فترات اعتقالهم. ولا زالت اسرائيل تحتجز جثامين (11) أسيراً كورقة للتفاوض حول مصير بعض المفقودين من جنودها. تفيد المعطيات عن وجود حوالي (700) أسير يعانون من حالات مرضية متفاوتة الخطورة، من بينهم (24) أسيرًا ومعتقلًا على الأقل مصابون بالسرطان. ويناهز عدد المعتقلين الاداريين الـ (1200) معتقلا، من بينهم ثلاث أسيرات وما يزيد عن (20) طفلا، وهو أكبر عدد أسرى إداريين معتقلين بدون تحقيق وبدون لوائح اتهام وبلا محاكمات منذ سني الانتفاضة الثانية؛ كما ويبلغ عدد الصحفيين المعتقلين (18) صحافيًا.
سأكتفي بهذه النبذة عساها تقرب القارئ الى واقع يعيشه وعاشه آلاف الفلسطينيين حين قرروا أن يضحوا بالأغلى لديهم في سبيل حرية شعبهم وتحرير وطنهم، وبنوا، عبر الزمن، أعلى صروح الكرامة الوطنية في تاريخ النضالات الفلسطينية، وقلعة عرف قيمتها العدو قبل الصديق كان اسمها وما زال ” الحركة الاسيرة الفلسطينية”.
لقد كانت قضية الأسرى الفلسطينيين الأمنيين دائمًا عنوانًا هامًا لدى السياسيين الاسرائيلين، ومحورا مميزا لدى اجهزة الامن الاسرائيلية على انواعها؛ لكنها تحولّت مؤخرًا إلى جبهة صراع أساسية مستهدفة من قبل حكومات اليمين المتطرف. ومن الملاحظ ان الحكومة الجديدة، ومن سبقتها، بدأت تتعامل مع قضية الأسرى الفلسطينيين وفق منحى لافت وصدامي وبوتيرة متسارعة واولوية بالاهتمام، حتى غدت قضية الاسرى عنوانًا، مثلها مثل قضية تعزيز الاستيطان ومخططات تعميق سياسات الابرتهايد في جميع الأراضي المحتلة، والامعان في ترسيخ مفاهيم “قانون القومية” واسقاطاته العملية على حياة المواطنين الفلسطينيين داخل اسرائيل؛ ويبدو ان الحكومة الحالية قد قررت تحويل قضية الاسرى الفلسطينيين الى “أزمة قومية وجودية” اسرائيلية يجب معالجتها من جذورها.
لم يكن هذا التحوّل الخطير اللافت من قبل الحكومات اليمينية المتطرفة العنصرية عبارة عن نزوة سياسية عابرة، أو مجرد عجرفة فردية لهذا الوزير العنصري الأحمق، أو تنفيسًا لرغبة ذاك الوزير الفاشي الحاقد؛ بل هو انقلاب جذري على واقع كان قائمًا داخل سجون الاحتلال منذ سنوات طويلة، حيث كانت معالمه وقوانينه الناظمة قد فُرضت وتشكّلت خلال معارك ومواجهات كفاحية خاضتها أجيال من المناضلين والمناضلات الفلسطينيين، بعد أن رفضوا الاذعان لسلطة وسلطان السجان الاسرائيلي ومحاولاته لتحويلهم من مناضلين أصحّاء، ضحوا من أجل حرية شعبهم وتحرير وطنهم من نير الاحتلال، الى ارهابيين مسلوبي الارادة والكرامة الشخصية والوطنية.
واذا نظرنا الى هذه المسألة بعمق، سنجد أن تغيير السياسات الاسرائيلية ازاء مكانة وحقوق الأسرى الفلسطينيين يشكّل في الواقع بعدًا مكمّلًا ومتداخلًا مع عناصر الانقلاب الحاصل داخل نظام الحكم الاسرائيلي، وجزءًا من منظومة مفاهيم التيارات الجديدة الصهيونية الدينية الحاكمة، والمتماهية مع مخططاتها ومواقفها ازاء مستقبل الاراضي الفلسطينية المحتلة ومكانة الفلسطينيين عليها. فهذه القوى لا تؤمن بحل الدولتين ولا بأي حل سياسي آخر يضمن للفلسطينيين استقلالهم ونيل حقوقهم الوطنية، أو أيّ جزء منها، كما كان يجسدها ويضفي عليها الشرعية نضال ووجود الحركة الأسيرة ؛ ومع صعود قوة هذه التيارات الظلامية بات واضحًا انهم لن يقبلوا باستمرار وجود حركة فلسطينية شرعية متماسكة وموحدة، كانت ولا زالت كيانية افرادها الجمعية تعكس قيم الأمل والكرامة ورفض العيش بمذلة تحت عنجهية المحتل. لقد شاهدت هذه القوى العنصرية المتطرفة كيف تحوّلت الحركة الاسيرة الفلسطينية، وهي داخل معتقلات الاحتلال وبموافقة المسؤولين في السجون والوزارات الاسرائيلية المتعاقبة، الى رمز يوّحد الشعب ويعزز طموحه واصراره على البقاء الحر، وشاهدوا كذلك كيف لم تنقطع مكانة هؤلاء المناضلين ولم يتوقف تأثيرهم على كونهم أسرى وراء القضبان، بل ان معظمهم يستمرون بعد الافراج عنهم بتمثيل تلك القيم النضالية والمفاهيم الانسانية داخل مجتمعاتهم المحلية. لقد شاهدوا كل ذلك وانتظروا الى أن لاحت لهم الفرصة فقرروا تنفيذ خطّتهم: إنها خطّة الحسم والقضاء على الحلم والامل الفلسطينيين، وهذا لن يتم، وفق ما يؤمن به هؤلاء الظلمة، الا بالقضاء على الحركة الاسيرة ، كما كانت وكما هي اليوم: ضابط نبض الشارع الفلسطيني الوطني وحارسه.
في ظل هذه التحولات يجب على جميع الجهات الفلسطينية، ذات العلاقة بهذه القضية الوطنية الكبرى، اعادة الحسابات والعمل فورا على مواجهة المخططات التي بدأت الحكومات الاسرائيلية، منذ بضع سنوات، بتنفيذها ضد الاسرى الفلسطينيين وعائلاتهم، وحققت في مساعيها، لغاية الآن، للاسف، جزءًا من أهدافها. لست في معرض التعرض لمخطط مفصل حول ما يجب فعله في وجه الحملة الاسرائيلية المتصاعدة، لكنني على يقين بأن الحركة الاسيرة هي العامل الاهم في هذه المواجهة، وهي صاحبة الخبرة والرأي والحق في اعداد ترتيباتها للحفاظ على تماسكها وقدرتها على تقويض المخطط الاسرائيلي وافشاله؛ فالأسرى، خاصة القيادات العتيقة والمجربة بينهم، يعرفون ان تبعات كسر ارادتهم او هزيمتهم في هذه الحرب المستعرة، ستتعدى حدود مواقعهم وراء القضبان وسلب حقوقهم الأساسية ومستحقاتهم الحياتية التي حصّلوها بالعرق وبالدم و “برموش العين” ، كما نقول في فلسطين، فتبعات الهزيمة ستتعداهم وستمس أيضا بقوة وبحصانة الشعب كله، وستؤثر، بطبيعة الحال، في جوهر النضال الفلسطيني وشرعيته وعلى استمرار مسيرة التحرر . كلنا نعرف أن الحكومة الاسرائيلية عازمة على تنفيذ مخططاتها المعلنة، وفي طليعتها، كما قلت، قمع الحركة الاسيرة وإلحاق الهزيمة بقياداتها. ولا يجوز لأحد الرهان على امكانية سقوط أو اسقاط هذه الحكومة أو على احتمالات مواجهتها من قبل قوى المعارضة الاسرائيلية الناشطة حاليًا، فالصراع الدائر داخل اسرائيل لا يرى بمكانة الاسرى الفلسطينيين وبحقوقهم هاجسًا يجب الالتفات اليه، وسيكون من الغباء التعويل على أي اسناد محتمل من هذه الجبهة. بالمقابل، وعلى الرغم من جميع العثرات والمعوقات القائمة في المشهد الفلسطيني، من الضرورة البناء على دعم الساحات الفلسطينية وعلى الاسنادات الدولية؛ فعلى الساحة الفلسطينية توجد جاهزية شعبية “فطرية” لدعم الحركة الاسيرة؛ بيد ان هذه الجاهزية لوحدها في الواقع الفلسطيني المنهك والمتداعي، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، لا تكفي؛ وفلسطينيًا، تقف مؤسسات السلطة وقياداتها بوضوح وبحزم الى جانب الحركة الاسيرة وتدعمها بعناد، رغم كل الصعوبات والضغوطات عليها؛ تماما كما يتوقع من بلد يحترم مناضليه. بيد أن أوضاع البلد العامة وتفاقم بعض الصراعات الداخلية شكّلت عناصر مشوّشة على الأداء المرجو. لا يمكن الانتظار، فالآتي قريبًا سيكون أخطر وأعنف، ولذلك فهنالك حاجة ملحّة الى مركزة العمل ومنهجته بمسؤولية وطنية وبعقلانية وبمهنية. إن “هيئة شؤون الأسرى والمحررين” هي عنوان ملائم لقيادة هذه المهمة محليًا ودوليا، والى جانبها سائر المؤسسات التي ترعى شؤون الاسرى وحقوقهم. إن العمل على مركزة العمل ومنهجيته بعقلانية وبمهنية، سيضمن، من جهة، تحييد الصراعات الفصائلية الداخلية عن هذه المسألة الملحّة والجامعة؛ ومن جهة ثانية سيضمن تجنيد المنافسات الايجابية الجمعياتية والمؤسساتية لمصلحة انجاح المجهود العام ونجاعته، عوضًا عن تكريس المناكفات التقليدية المنهكة والمهلكة، أو الاستمرار في خوض حروب القبائل والفرسان.