معركة ميسلون

بقلم اسكندر عمل 

في الثامن من آذار سنة 1920 صدر عن المؤتمر السوري الممثل لجميع أقسام سوريا قرار بتنصيب الأمير فيصل ابن الحسين ملكًا دستوريًا على سوريا ونص على استقلال سوريا بحدودها الطبيعية استقلالاً تامًا لا شائبة فيه وطلب القرار من الحلفاء جلاء جنودهم من جميع المناطق بما فيها فلسطين ولبنان.
أثار هذا القرار حفيظة فرنسا التي كانت تسعى لتطبيق معاهدة سايكس – بيكو الاستعمارية، لذا احتد التوتر بين سوريا وفرنسا، لكن هذا لم يمنع الدول الاستعمارية من اتخاذ قرار في مؤتمر سان ريمو بتاريخ 24/4/1920، ففرض بموجبه الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان والانتداب البريطاني على العراق، فلسطين وشرق الأردن وكان هذا تطبيقًا ل لمعاهدة سايكس بيكو إلى حد كبير.
في السابع والعشرين من نيسان أبلغ اللورد النبي ببرقية بعثها إلى فيصل، قرارات مؤتمر سان ريمو وحثه في نهايتها أن يترك سوريا ويتوجه إلى مؤتمر الصلح في أوروبا لعرض قضيته. تلقى الشعب السوري قرار الانتداب بغضب شديد وكان صدمة لأعز أماني البلاد فاشتعلت المظاهرات في جميع أنحاء البلاد، مظاهرات احتجاجية صاخبة واستقالت الحكومة السورية وتألفت حكومة جديدة برئاسة هاشم الأتاسي أسمت نفسها بالوزارة الدفاعية وهدفها الدفاع عن استقلال البلاد. وقد اتخذت الحكومة الدفاعية خطوات عملية إذ سنت قانونًا لعقد قرض وطني بمبلغ نصف مليون دينار بغية الحصول على حاجيات الدفاع، ووسعت قانون التجنيد الإجباري.
في الحادي عشر من تموز سلم غورو المندوب السامي الفرنسي في بيروت، نوري السعيد مبعوث الملك فيصل انذاراً يفرض فيه قبول الانتداب الفرنسي دون قيد أو شرط ويحدد شروط أخرى وكذلك يبلغه رفض الحكومة الفرنسية السماح للملك فيصل بالسفر إلى أوروبا لعرض القضية السورية. على أثر الإنذار الفرنسي أرسل فيصل ببرقيات إلى قناصل الدول الأجنبية وعلى رأسها ايطاليا طالبًا لجنة تحكيم دولية للبث في وضع سوريا. كذلك أرسل برقية للحلفاء يطلب فيها منهم استعمال نفوذهم من أجل تسوية القضية بالطرق السلمية.
في الرابع عشر من تموز أرسل المندوب السامي الفرنسي الإنذار الرسمي الفرنسي للملك فيصل (نلاحظ أن فرنسا سلمت الإنذار في ذكرى الثورة الفرنسية التي يتباهى به الفرنسيون ويزعمون أنها كانت مصدرًا لحريات العالم كله)، وملخص كتاب الإنذار أن فرنسا قبلت على نفسها إرشاد سوريا كدولة جديدة، كي توصلها إلى مرحلة الاستقلال يؤكد الكتاب أن الهدوء كان سائدًا فترة وجود القوات الانجليزية وأن الاضطرابات بدأت مع استبدال القوات الانجليزية بقوات فرنسية، وهذا الأمر اثر على تقدم سوريا في جميع النواحي والمسؤول الأول عن كل هذا الضرر هي حكومة دمشق. ثم يعدد المواقف التي وقفت فيها الحكومة السورية وقفة معادية للانتداب الفرنسي، وينهي كتابه بإنذار يتضمن قبول الانتداب الفرنسي دون قيد أو شرط واستعمال النقد السوري ومعاقبة المجرمين الذي اضروا بالفرنسيين واستعمال سكة حديد رياق – حلب. وكانت مدة الإنذار أربعة أيام تبدأ من منتصف ليل 15 تموز وتنتهي في 17 تموز الساعة الثانية عشرة ليلا. وإذا لم تقبل الحكومة السورية هذه الشروط فستقوم القوات الفرنسية بالتصرف ومسؤولية الويلات التي ستحدث تقع على عاتق الحكومة السورية. بعد الإنذار الفرنسي اجتمعت الحكومة السورية برئاسة الاتاسي واتخذت تدابير مختلفة منها الإعلان عن الأحكام العرفية في البلاد، تعيين الأمير زيد قائدًا عامًا للجيش السوري وياسين الهاشمي قائدًا لجبهة مجدل عنجر (طريق بيروت – دمشق)، ويحيى حياتي قائدًا لمنطقة حمص وحماة. وقد اشرف على هذه التدابير العسكرية  وزير الحربية يوسف العظمة وقد وصل مجموع القوات السورية في منتصف شهر تموز 1920 ثمانية الآف جندي يملكون خمسة عشر ألف بندقية وخمسين مدفعًا عيار 7، 5 وأربعة مدافع عيار 5، 10 ولكل مدفع خمسون قنبلة.
بعد مشاورات طويلة وخاصة مع اللنبي قررت الحكومة السورية والملك فيصل قبول شروط الإنذار في الثامن عشر من تموز لكن هذا لم يكن كافيًا  لغورو فطلب تنفيذ الشروط بأعمال رسمية، وكان رد فيصل في العشرين من تموز بأن الحكومة السورية توافق على المذكرة الفرنسية مع كل الإيضاحات المطلوبة.
منذ الخامس عشر من تموز شعر المؤتمر السوري أن هناك نية لقبول الإنذار الفرنسي لذلك عقد المؤتمر عدة اجتماعات هدفها التأكيد على الخط الثوري والاستمرار في معارضة قرارات الانتداب. وفي التاسع عشر من تموز بدأت الحكومة السورية بتنفيذ أحكام الإنذار فسرحت الجيش وقررت تأجيل المؤتمر السوري لمدة شهرين.
عم السخط دمشق فقامت المظاهرات في أسواق دمشق وهاجم المتظاهرون قلعة دمشق وقاموا بأخذ الأسلحة فقام الأمير زيد بإطلاق النار على المتظاهرين فقتل منهم ما يقارب مائتي شخص.
في العشرين من تموز سلمت الحكومة السورية نصًا جوابيًا مفصلاً للإنذار الفرنسي وكان من المفروض أن يتوقف الجيش الفرنسي عن الزحف بعد هذا الرد، لكن القوات الفرنسية استمرت في الزحف نحو دمشق وعلم فيصل انه كان مخدوعًا فقرر استنفار ما يمكن استنفاره من جنود فأذيعت مناشير من قبل الملك والقيادة العامة والحكومة وفيها دعوة للشعب للاستبسال في الدفاع عن الوطن، في الوقت نفسه استمر في محاولاته إيقاف الزحف الفرنسي عن طريق  إرسال مبعوث شخصي لغورو (وهو ساطع الحصري وزير في الوزارة السورية)، وبعد ذلك برقية لغورو في الثالث والعشرين من تموز لكنه لم يتلق رسالة جوابية واستمر الزحف الفرنسي، عندها وجه يوسف العظمة إلى ميسلون لملاقاة الجيش الفرنسي وقاد تحسين الفقير موقع دمشق بدل ياسين الهاشمي الذي رفض قبول المنصب والأمير زيد تولى القيادة العامة لكن الجيش كان قد سرح كما ذكر سابقًا.
كانت خطة يوسف العظمة إنشاء سلسلة من الحصون حول قرية مجدل عنجر المطلة على طريق رياق – دمشق ولكن بعد تسريح الجيش في السابع عشر من تموز لم يبق من القوات التي كانت مرابطة في مجدل عنجر سوى ستين جنديًا تجمعوا في ميسلون في الحادي والعشرين، في اليوم نفسه انتشرت الدعوة للتطوع وكان الجيش الفرنسي قد بدأ بالتقدم نحو العاصمة دمشق من جهة الغرب.
بدأ قواد الجيش بإنشاء خط دفاع وتنظيم المتطوعين وقد اشرف على هذه العمليات شريف الحجاز مدير الاستخبارات العسكرية في الجيش وقد وصل إلى ميسلون برفقته ثلاثمائة من المتطوعين وقد بلغ عدد المتطوعين في مساء الثالث والعشرين من تموز ثلاثة ألاف جندي. عبئت القوات في منطقة ميسلون وجبالها تعبئة محكمة وأقامت في انتظار وصول العدو وجاء يوسف العظمة صباح السبت الرابع والعشرين من تموز ليشترك في القتال.
ظلت القوات الفرنسية تتقدم من دون مقاومة حتى أشرفت على منطقة ميسلون مساء الجمعة وفي فجر اليوم الثاني بدأت المدفعية الفرنسية قصف المواقع السورية وكانت المدفعية السورية تجيبها بمقدار قليل لقلة العتاد، واشتركت عشرة طائرات فرنسية بالهجوم وعدد من الدبابات. في العاشرة صباحا تقدم مشاة الفرنسيين فتصدت لهم القوات العربية السورية القليلة العدد واصلت الفرنسيين نارًا حامية وكان القتال عنيفًا حتى الساعة الواحدة ظهرًا ولكن المدفعية الفرنسية أسكتت المدفعية السورية كما زحزح المشاة الفرنسيون القوات العربية إلى الوراء وكان عدد الشهداء الذين سقطوا في المعركة حوالي ثمانمائة شهيد وكانت خسائر الفرنسيين ثلاثمائة جندي، وانسحبت القوات العربية التي لم يصل منها إلى دمشق سوى خمسة وعشرين جنديًا يقودهم شريف الحجاز.
استبسل السوريون في معركة ميسلون ولم يستسلموا رغم عدم التكافؤ في القوات العسكرية والعتاد ونوعية الأسلحة، فقد قدرت القوات الفرنسية بناء على بلاغ رسمي بتسعة ألاف جندي تعززها عشر طائرات وخمس بطاريات ميدان جبلية وبطاريتين من عيار 5 و 15، وعدد من الدبابات وكمية من الرشاشات وكانت هذه القوات بقيادة غوابيه.
إن موقعة ميسلون رغم انتصار الفرنسيين، تعتبر أول مواجهة عسكرية شجاعة ضد  الاستعمار الفرنسي وقد أثبتت للفرنسيين منذ اليوم الأول من الانتداب إن الشعب السوري لن يكون شعبًا متخاذلاً وسيقاوم الاحتلال بكل قوة مهما كلفه ذلك من تضحيات، ميسلون تعتبر بداية التمر العنيف على التواجد الفرنسي في سوريا، هذا التمرد الذي لم يتوقف أبدًا من ميسلون وانفجر أخيرًا بثورة عارفة – واسعة النطاق في الثورة العربية بقيادة سلطان باشا الأطرش عام 1925 وقد انتشرت هذه الثورة في أنحاء سوريا كلها وصمدت وكبدت العدو خسائر كبيرة حتى سنة 1927.

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*