عزّ الدّين القسّام الشّرارة الأولى (2)

بقلم اسكندر عمل

جامع الاستقلال في حيفا

سيّرت السّلطات البريطانيّة قوّة تزيد على أربعمائة جندي وشرطي نحو خربة الشّيخ زيد، ودارت معركة غير متكافئة بين القسّام ورجاله وبين مئات الجنود البريطانيّين. وقد استشهد القسّام واثنان من جنوده وأُسِر خمسة آخرون وفرّ الباقون في الجبال، وقد دامت المعركة ست ساعات قُتِل فيها من الانكليز أكثر من خمسة عشر جنديًّا.

  • القسّام والحركة القسّاميّة بعد 1929

استمرّ القسّام بعد هبّة 1929 في التّحضير للثّورة واستمرّ في تنقّلاته وتجنيده للقوى الّتي توسّم فيها الإخلاص والرّغبة في العمل. وفي عام 1932 انتسب إلى فرع حزب الاستقلال في حيفا، حسب ما تورده مصادر عديدة كدروزة والكيّالي، إلّا انّ ابراهيم الشّيخ خليل يؤكّد بشهادة مجموعة من رفاق القسّام، أنّه أي القسّام لم يرتبط بأي حزب سياسي، ولم ينتسب إلى أي حزب من الأحزاب.
اشترك بعض أعضاء الحركة في هبّة 1933 ، لكن ذلك لم يكن بشكل منظّم، وألقِيَ القبض على ثلاثة منهم أعدِم أحدهم وهو مصطفى علي الأحمد وعلى آخر بالسّجن لمدّة عشر سنوات وهو أحمد الغلاييني، الّذي بقيَ في السّجن حتّى عام 1944. وبعد هبّة 1933، بدأ القسّام بجمع التبرّعات لابتياع كميّة قليلة من السّلاح استعدادًا للقيام بالثّورة ضدّ الحكومة الإنجليزيّة الّتي اعتبرها الحامية الحقيقيّة للصّهيونيّة في فلسطين.
استطاع الشّيخ ورفاقه حتّى أوائل عام 1935 أن ينظّموا العمل الثّوري ويقسموه إلى فروع وهي:
1. فرع الدّعوة: تكوّن من العلماء والخطباء في المساجد الّذين حثّوا على الثّورة.
2. فرع التّموين: لشراء السّلاح، ومن أبرز أعضاء هذا الفرع الشّيخ حسن الباير(قرية برقين) والشّيخ نمر السّعدي ( شفاعمرو).
3. فرع التّدريب العسكري: أشرف عليه ضابط كان قد خدم في الجيش العثماني.
4.فرع التّجسّس: وهدفه التّجسّس على الصهاينة والانجليز، وكان معظم أعضائه من موظّفي الحكومة خاصّة الشّرطة، وقسم منهم عمل مع اليهود لمعرفة نشاط الأحزاب الصّهيونيّة ومخطّطاتها، ومن أبرزهم ناجي أبو زيد من حيفا.
5. فرع العلاقات الخارجيّة: للاتصالات السّياسيّة، وقد اتّصل أعضاؤه بقناصل دول أجنبيّة من أجل الحصول على أسلحة حديثة، ومن أعضائه الشّيخ محمود سالم المخزومي من قرية زرعين.
في هذه المرحلة ، أوائل عام 1935 ، اتّصل القسّام بالحاج أمين الحسيني ليعلن الأخير الثّورة في جنوب فلسطين، في نفس الوقت الّذي سيعلن فيه القسّام الثّورة في الشّمال، وقد أرسل له أحد تلاميذه وهو محمود سالم المخزومي الّذي التقى بأحد معاوني المفتي وهو الشّيخ موسى العزراوي، وأبلغه رغبة القسّام، إلّا انّ جواب الحسيني كان سلبيًّا، لأنّ الوقت حسب رأيه لم يحن، وأنّ الجهود السّياسيّة المبذولة كفيلة بإعطاء عرب فلسطين حقوقهم.
هذا الأمر وغيره إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على أنّ القيادات التّقليديّة كانت تتجنّب الصّدام مع بريطانيا وتسعى باستمرار لمفاوضتها، بينما رأى القسّام أنّ التّركيز يجب أن يكون على الاستعمار البريطاني لأنّه العدو الأساسي وأساس وأس البلاء وأنّ الكفاح المسلّح هو السّبيل للتّخلّص من السّيطرة الانجليزيّة.

*خروج القسّام إلى الجبال وبدء الثّورة*

إنّ الأوضاع الّتي سادت فلسطين عام 1935 ، خاصّة الهجرة اليهوديّة المكثّفة الّتي وصلت خلال هذا العام فقط إلى 61854 مهاجرًا، و”شراء” المجموعات الصهيونية 72905 دونمات من الأراضي العربيّة، دفعت القيادة القسّاميّة إلى ترك حيفا والانتقال إلى القرى، للعمل بين الفلّاحين وتجهيز السّلاح للثّورة. وكان هناك سبب آخر لهذا الانتقال وهو تشديد السّلطات البريطانيّة الرّقابة على تحرّكات القسّام في حيفا، فخشيَ من انكشاف أمر جماعته، ويؤكّد ابراهيم الشّيخ خليل ذلك فيقول:” في أوائل عام 1935 ، رأى القائد بأنّ المستعمر يراقب تحرّكات القسّاميّين مراقبة دقيقة، وكان القائد يتحسّس بأنّ المستعمر سيعتقل النّخبة الصّالحة من إخوانه، وسيقوم بإفساد جميع مخطّطات الثّورة قبل أن تظهر للمواطنين. وكان رأيه الخروج إلى الجبال والطّواف بالقرى وحث المواطنين على شراء السّلاح والاستعداد للثّورة”.
والظّاهر أنّ السّلطات البريطانيّة جنّدت عددًا من رجال البوليس السّرّي لمراقبة القسّام وكان أبرزهم أحمد نايف الّذي اغتاله القسّاميّون في حيفا فيما بعد عام 1937 . ومن الأسباب  الأخرى للانتقال إلى القرى والإعداد للثّورة، الاستفزازات الصّهيونيّة كالتّدريب العسكري العلني ومهاجمة أتباع جابوتنسكي للقرى العربيّة ممّا أثار الرّأي العام العربي. واكتشاف شحنة كبيرة من الأسلحة المهرّبة للصّهيونيّين في يافا في تشرين الأول 1935، ممّا زاد من مخاوف العرب من المخطّط البريطاني الصّهيوني وأدّى إلى إعلان الإضراب الشّامل في كل فلسطين، إحتجاجًا على عمليّة تهريب السّلاح، إضافة إلى السّببين الرّئيسيّين  سلب الأراضي العربيّة والهجرة المكثّفة الّلذين ذكرا سابقًا.
في 12 تشرين الثاني 1935 ، عقد القسّام آخر اجتماع لقادة حركته في حيفا، وذلك في بيت محمود سالم المخزومي، وقرّر الشّروع في الكفاح المسلّح وترك حيفا. وتشير معظم المصادر أنّه غادرها في تلك الّليلة. امّا خلّة فيقول نقلًا عن “الثورة الفلسطينيّة”، أنّ القسّام غادر حيفا قبل ذلك في ليل 26/ 27 تشرين الأوّل. وقد رافق القسّام خمسة وعشرون رجلًا من أنصاره المسلّحين وتوجّهوا إلى قرية كفر دان في قضاء جنين.
إنّ الحادثة الّتي كشفت عن مركز القيادة، كانت في 14 تشرين الثّاني 1935 ، حين هاجم مجهولون مستوطنة عين حرود، ومرّوا في أثناء رجوعهم بالقرب من مركز قيادة القسّام، وفي الصّباح مرّت دوريّة مكوّنة من ثلاثة، بريطاني ويهودي وعربي فأطلق عليهم أحد حُرّاس القيادة وهو محمود سالم النّار فقتل الشّاويش اليهودي وفرّ الآخران، فقرّر القسّام  ورجاله التّحرّك من المكان خشية الاصطدام بقوّات بريطانيّة كبيرة، إذ لم يكن استعداده لمثل هذه المعركة متكاملًا، وفي 19 تشرين الثّاني وصلوا إلى خربة الشّيخ زيد شمالي يعبد، فكانت القرية مطوّقة حين وصلوها وهذا يدلّ على أنّ تحرّك القسّام لم يكن خافيًا على السّلطات البريطانيّة. وأُعلِنت حالة الطّوارئ منذ ظهر 19 تشرين الثّاني في حيفا وطولكرم وجنين ونابلس، وسيّرت السّلطات البريطانيّة قوّة تزيد على أربعمائة جندي وشرطي نحو خربة الشّيخ زيد، ودارت معركة غير متكافئة بين القسّام ورجاله وبين مئات الجنود البريطانيّين. وقد استشهد القسّام واثنان من جنوده وأُسِر خمسة آخرون وفرّ الباقون في الجبال، وقد دامت المعركة ست ساعات قُتِل فيها من الانكليز أكثر من خمسة عشر جنديًّا.

*أثر ثورة القسّام واستشهاده*

كان وقع استشهاد القسّام ورفاقه أليمًا في جميع أنحاء فلسطين، فأُعلِن الإضراب العام في حيفا، ونُقِل الشّهداء إلى مدينة حيفا حيث كرّمهم سكّان المدينة، وقدِمَت عشرات الوفود من جميع أنحاء فلسطين للمشاركة في جنازة القسّام. تحوّلت جنازة القسّام إلى مظاهرة وطنيّة جبّارة شارك فيها أكثر من عشرين ألفًا. وحملت الجماهير نعشه على الأكتاف من حيفا ألى قرية  الياجور الّتي تبعد عشرة كيلومترات عن حيفا، وقد نادى المشاركون بسقوط الاستعمار البريطاني والوطن القومي اليهودي، ورجموا أثناء المظاهرة البوليس الانجليزي بالحجارة، وحدث صدام بين الشّبّان العرب وبين الانجليز جُرِح على إثره ثلاثة من الانجليز وعربيّ واحد.
“أمّا الزّعماء السّياسيّون باستثناء قادة حزب الاستقلال رشيد الحاج ابراهيم وصبحي الخضرا وعادل وأكرم زعيتر، تخلّفوا عن السّير في الجنازة، وكانت برقيّات التّعزية الّتي أرسلوها فاترة، إذ لم يفتهم التّنبّه إلى أنّ ثورة القسّام كانت بمثابة دليل على عقم أساليبهم، كما أنّ تضحيته وشجاعته فضحت نفعيّتهم وأنانيّتهم.”
إنّ معركة القسّام ضدّ الانجليز تعتبر أوّل مواجهة مسلّحة وجريئة في تاريخ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وهي البداية الحقيقيّة لثورة 1936 الكبرى، صحيح أنّ نشاط القسّام اقتصر على منطقة واحدة ولم يستطع أن يحقّق الأهداف الّتي خطّط لها، لكنّه حرّك البلاد وعرّف الشّعب الفلسطيني على عدوّه الحقيقي وفرض على الزّعامات التّقليديّة أن تنتهج سياسة اقل تقرّبًا من البريطانيّين. فبعد ستّة أيّام من استشهاد القسّام، وفي اجتماع بين واكهوب وممثّلي الأحزاب الفلسطينيّة الخمسة، قدّم له هؤلاء الزّعماء مذكّرة جاء فيها” أنّهم إذا لم يتلقّوا عن مذكّرتهم جوابًا يمكن اعتباره بصورة عامّة مرضيًا فإنّهم سيفقدون كل ما يملكونه من نفوذ على أتباعهم، وعندئذٍ تسود الآراء المتطرّفة غير المسؤولة وتتدهور الحالة سريعًا.”
لم يمرّ وقت طويل حتّى أصبح الرّأي العام في فلسطين كلّها ينظر إلى القسّام وأتباعه نظرة تقدير ويعتبرهم أبطالًا وشهداء. ومن النّتائج الهامّة لحركة القسّام ظهور كُتَل سياسيّة من الشّبّان، كما أخذت قيادات ثوريّة جديدة تحتلّ محلّ القيادات التّقليديّة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر أكرم زعيتر وحمدي الحسيني ومشيل متري وعاطف نور الّله. وكانت أهداف هذه الكتل، كما كشفت تقارير دائرة التّحقيقات، التّحريض السّياسي ضدّ بريطانيا وليس ضدّ الصّهيونيّة وحدها، وإجبار زعماء الأحزاب على اتّخاذ قرارات كان لها أهمّيّة كبرى في تعبئة الجماهير للانخراط في ثورة 1936 الّتي لم يفصلها عن استشهاد القسّام أكثر من خمسة أشهر.

 

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*