مكتبة النُّور بقلم د. خالد تركي (حيفا)

كانت مكتبةُ النُّورِ، في مدينة حيفا، لصاحِبِها المناضلِ داوُد تُركي (أبو عائدة)، فيحاءَ المثقَّفين العربِ في بلادِنا، خاصَّةً ساحلها، وسُويداءَ قلوبِهِم، في عاديَّات الزَّمنِ العاتيَة، في ستِّيناتِ القَرنِ الغابِر. حيثُ أقامَ مكتبتَهُ في شهرِ آب منَ العامِ ألفٍ وتسعمائةٍ وواحدٍ وستِّين، في مِنْطقةِ وادي النِّسْناس، زاويةِ شارعِ الخوري و”نَزْلِة صهيون”، الواقعةِ مقابلَ بُستانِ الشُّيوعيَّة، بعدَ أنْ أَخَذَ على عاتِقِهِ نشْرَ الثَّقافةِ المُلتَزمةِ، الوَطنيَّةِ والقَوميَّةِ، بينَ جماهيرِ شَعبِنا، حاملاً على كاهِلِهِ، بدايةً، الكُتُبَ مارًّا بأحياءِ حيفا وعكا العربيَّة، حيثُ كانَت لهُ قوَّة إقناعٍ وجذبٍ لبيعِ الكُتُبِ والصُّحُفِ، خاصَّةً حينَ كانَ يتأبَّطُ صحفَ الاتِّحادِ فخورًا ومتحَدِّيًا وظافِرًا، إلى أنْ استقرَّ في المكتبة..
لقد كانَت مكتبةُ النُّور، سِراجًا مُنيرًا في ظُلمةِ وطَنِنا خُصُوصًا بعدَ نكبتِهِ، وَمَنارةً هادِئةً وهادِيةً، تُطلقُ سناءَها بعالي سمائِها، لتُضيءَ الدَّربَ في دَياميس الحُكمِ العَسْكريِّ الظَّالمِ والجائرِ والإقامةِ الجبريَّةِ والاضْطِهادِ القوميِّ، عِندَما أرادُونا حَطَّابين وسُقاةَ ماء. وحينَ كنْتَ تدخلُ المكتبةَ، كنتَ ترى صورَ جيفارا وكاسترو تُزيِّن جُدْرانها ورُفوفها وتَسْتَنشِقُ عبيرَ الورقِ الصَّافي وترى أبا عائدة مبحِرًا في لُجَجِ موسوعةٍ أو كتابٍ أو صحيفةٍ أو محاوِرًا زبائنه من روَّاد الثَّقافةِ والعلمِ..
لقد رفعَ صاحبُ المكتبةِ، أبو عايدة، شعارَ: “شبابٌ قُنَّع لا خيرَ فيهِم وبورك في الشَّباب الطَّامحين”. لذلك كَرِهَ الرُّوتين، ومن حيث يَدْري، بالتَّأكيد، عمل بقول أحدِ الصَّحابة النُّجَباء: من تَساوَى يوماه فقد خسِرَ (فهو مغبونٌ).
لقد كانَ أبو عائدة “الدُّومري” الذي يُضِيء الطُّرقاتِ في الأحياءِ المُعتِمةِ، ليلاً،
ليُهْدي سُكَّانها إلى بيوتِهم، إلى برِّ الأمان، لتَكونَ رؤيتَهُم واضحةً، وَيدلُّ السَّاري ليَهتَدي إلى بيتِهِ! حتَّى تُطفئَ الغولةُ سِراجَها، مُكرهةً، حيث حاولَ أن يُبقيهِ مُعتِمًا ما اسْتَطاع..
كانت مكتبتُهُ جامعةً ومنتدىً أدبيًّا تجمَعُ الشُّعراءَ والكُتَّابَ والمثقَّفين الثَّوريِّين، عسَّاف حناني وديب عابدي وسميح القاسم ومحمود درويش وعلي عاشور وجبرا نيقولا وتوفيق فيَّاض وعبد الرَّحيم قرمان وسالم جبران ونعيم جلعادي وأودي أديب ويعقوب حجازي وموسى ناصيف وحنَّا ابو حنَّا، وتدور بينهم نقاشات سياسيَّة عن الحقوقِ القوميَّةِ وحقِّ الشُّعوبِ في تقريرِ مصيرِها والصِّراعِ الطَّبقيِّ، أو بينَ هذا الموقفِ وذاك وأدبيَّة ما بينَ النَّحوِ والصَّرفِ والبلاغةِ ونقاشٌ حولَ هذه الرِّوايةِ أو هذا الدِّيوانِ، واجتماعيَّة في قضايا حقوقِ الطَّبقةِ العاملةِ والفلاحين والمساواة، وفلسفيَّة في علمِ الماديَّةِ الجدليَّةِ أو القوميَّةِ..
لقد كانَت المكتبةُ، وبتطابقٍ مع اسمِها، نورًا وروضةً ومنهلاً ومحجًّا وقِبلةً لطالبي الأدبِ والشِّعرِ والثَّقافةِ والفنِّ والتَّاريخِ العربيِّ وغيره.
لقد أصدَرَت مكتبةُ النُّورِ دِيوانيْن، “عاشق من فلسطين” و”عصافير بلا أجنحة”، للشَّاعرِ محمود درويش، وديوانًا آخر “شموع”، للشَّاعرِ حبيب زيدان شويري كذلك قامَت بطبعِ العقدِ الفريدِ لابنِ عبْدِ ربِّه الاندلُسيِّ.
يمرُّ الثَّامنُ من آذار وأذكُرُ يومَ رحيلِ صاحبِ مكتبةِ النُّورِ داوُد تركي في عامِ ألفين وتسعة، وأرَى كَيْفَ انتهَت مسيرةُ المكتبةِ وأصبحَت كما قالَ مَعَريُّ النُّعمان: “ضاحِكًا من تَزاحُمِ الأضدادِ”، تتنقَّل بينَ مسمكةٍ وبقَّالةٍ ومحمَصٍ للمكسَّراتِ، الى محلقة للرِّجال لتَعود الغولةُ بسِراجها المُضِيء، وتعاوِدُ كرَّتها، لكن هيهات..

Post Tags:

Total Comments ( 23 )

  • وضحى says:

    مكتبة مميزة يذكرها القرّاء رواد مكتبة النور آنذاك حتى هذه الايام

  • هشام روحانا says:

    حياك وبياك على تذكيرنا بمكتبة النور
    كنت ارتادها حينما كانت وداد صغرى بناته على ما أظن تديرها وهذا في بدايات السبعينيات وكنت تجد فيها أيضا كتبا مترجمة للعربية من جمهرية الصين الشعبية- الاشتراكية وأهمها كتابات الرئيس “ماو” بغلافها الأحمر القاني، وما زلت احتفظ بها، كما وكنت تجد مجلات تصدرها الصين بألوان الطبيعة الصينية الزاهية وكانت المكتبة غنية أيضا، وهذا ما أريد التأكيد عليه أنها ورغم صغر حجمها بالاصدارات الهامة باللغة الانجليزية لمؤلفين تقدميين منها كتب لسارتر مثلا . وهنالك ايضا تعرفت على بعض اصدارات محمود درويش وسميح القاسم .

  • د. هشام روحانا says:

    حياك وبياك على تذكيرنا بمكتبة النور
    كنت ارتادها حينما كانت وداد صغرى بناته على ما أظن تديرها وهذا في بدايات السبعينيات وكنت تجد فيها أيضا كتبا مترجمة للعربية من جمهرية الصين الشعبية- الاشتراكية وأهمها كتابات الرئيس “ماو” بغلافها الأحمر القاني، وما زلت احتفظ بها، كما وكنت تجد مجلات تصدرها الصين بألوان الطبيعة الصينية الزاهية وكانت المكتبة غنية أيضا، وهذا ما أريد التأكيد عليه أنها ورغم صغر حجمها بالاصدارات الهامة باللغة الانجليزية لمؤلفين تقدميين منها كتب لسارتر مثلا . وهنالك ايضا تعرفت على بعض اصدارات محمود درويش وسميح القاسم .

  • الاديبة والمدرسة روزا سمعان says:

    كم اشتريت منها العديد من القصص والروايات , وكتبا في مجالات عديدة ومنها انطلقت في بناء مكتبتي الأولى , وبعدها انتقلت للتعامل مع الأستاذ صالح عباسي وبدات مكتبتي تكبر وتكبر

  • الفنانة سعاد نصر says:

    معلم من معالم حيفا

  • جعفر فرح says:

    نسيت تحكي عن عزرا اللي كان يلحق اللي بفوت على المكتبة ويحذره. وعلى اعتقال ابو عايدة وملاحقة المكتبة والقراء ومحاوﻻت مصادرة الكتب الوطنية.
    الثقافة كانت مشروع فكري ﻻشخاص واحزاب. للاسف اصبحت ذكرى على الرغم من تحسن وضع الناس مقارنة في تلك الايام

  • طنطور النا says:

    رجل أصيل قل مثيله
    وطني عروبي وفي مخلص لمبادئه وثوابته العروبية الأصيلة
    شاعر فصيح اللسان عاشق للأدب
    للأسف لم يأخذ حقه بالتكريم اللائق
    مع انه قدم الكثير الكثير وسنون أسر طوال وتغربت إبنته عايدة بعيدآ عنه
    وعاش ظروفا مادية وصحية من أصعب ما يكون

  • موسى وهيام غطاس says:

    من لا يتذكر هذا المعلم الرائع من معالم حيفا

  • عصام زين الدين. says:

    تاريخ حيفا ناصع بوطنيته ومناضليه وكيف لنا ان ننسى مكتبة النور وبستان الشيوعية ونادي المؤتمر في الولد.
    لتبقى ذكراك خالدة ابو عايده .

  • سماهر غنام says:

    الحقيقه قرأت المقاله مرتين , لا اخفي عنك شعوري الحسود لمثل هذه الايام التي ذكرتها , نعم الايام التي بها قدس الكتاب وكان مركز اهتمام المرء حتى يثري معرفته ويطور قدراته الفكريه , حين كانت الناس تتبارز بالاشعار والقدره اللغويه , كانت القراءه عبر ملامسة الانامل للاسطر , للاسف نحن نفتقد هذه اللذه حيث اننا حين تمتلكنا الرغبه للمعرفه نقلب صفحات الانترنت بدل صفحات الكتب والصحف , نجتمع خلف شاشات الحواسيب بدل الجلوس وجه لوجه لتبادل الاحاديث. وها نحن نقرأ عن تلك المكتبه الثريه بجوهرها عبر الانترنت , دكتورنا العزيز اتشكرك لانك جعلت مخيلتي تطوف حول تلك المكتبه وما كان يجري بها … جميل جدا بل فخر لنا بان نكون من قراءك

Leave a Reply to عصام زين الدين. Cancel reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*