الفتنة – د. خالد تركي حيفا

كم هو سهل أن يتَّهم طرفٌ ما طرفًا آخر بالتَّطرف الدِّيني، وبأنه يكرَهُ ويُكرِّه ويحرِّض فئته على غيرها ويُظهر نفسَه بريئةً من دم هذا الشِّرِّير، ويُلبِس نفسَه وجسدَه، بعدها، ثياب العفَّة والطَّهارة “المقتصرة عليه” دون غيره..
لقد حاولَت وما زالَت تُحاول الامبرياليَّة العالميَّة وعميلتها الحركة الصُّهيونيَّة، أَن تصوِّر الصِّراع في شرقنا الدَّامي، القائم منذ قرن ونيِّف من الزَّمن، على أنَّه صراع أديان بين اليهوديَّة والإسلام، وأنَّه لا ناقة ولا جمل لمسيحيي المشرق العرب في هذا الصِّراع، وتُشعل بعدها نار الفتنة والخلاف بين أبناء الشَّعب الواحد، بين العرب المسيحيِّين والمسلمين، وتتطاول وتتمادى وتذهب إلى التَّحريض المذهبي والطَّائفي (السُّنِّة والشِّيعة، الكاثوليك والموارنة أو الأورثوذكس إلخ..) آملةً (خاسئةً وخائبةً) أن تكون بهذا قد ضربت بسيفها إسفين الخلاف بين أصحاب الهمِّ الواحد والأرض الواحدة والوطن المشترك والشَّعب الواحد، مبعدة بذلك انتباه العالم وشعوبه عن الصَّراع الحقيقي. وانطلاقًا من سياسة فرِّق تسُد، يغتنم وينتهز المُغرضون الفرص للإنقضاض على فريستهم، وبذلك تكون قد وصلت ونالت مأربها، لتتمَّ مكيدتها في السَّيطرة على مشرقنا الحبيب.
إِنّه واضح كقرص الشَّمس في تَمُّوز، أنَّ هذا هو صراع بين قوى الظَّلام التي احتلَّت بلادنا وانتهكت جميع المحرَّمات والحُرُمات ونكبت شعبًا كاملاً، وبين القوى المدافعة عن الوطن المنكوب والمغتصَب.
وما نراه في العراق هو نموذج واضح وحيٌّ على تلك المؤامرة التي تحاك ضدَّ وطننا العربي. لقد عاش المسيحيُّون في العراق بطمأنينة تامَّة حيث أقاموا شعائرهم الدِّينيَّة بحرِّيَّة مطلقة، بل وكرَّست لهم الحكومة العراقيَّة المنح السخيَّة من أجل بناء الكنائس وأماكن العبادة، كما وشاركوا بقيَّة ابناء شعبهم العراقي أفراحه وأتراحه وكانوا أخوة في السَّرَّاء والضَّرَّاء، إلى أن أتى من يعكِّر هذا الصفو وهذا النَّسيج المتجانس ودخل العراق باسم حماية الدِّيمقراطيَّة في البلاد والمنطقة من أسلحة الدَّمار الشَّامل وكانت نتيجة دخوله العراق، احتلاله وتدمير بنيته التَّحتيَّة وسرقة متاحفه ومقدَّراته ونفطه فضلاً عن إشعال نار الفتنة بين أبنائه، بضرب المساجد والكنائس وتدميرها فوق رؤوس المُصلِّين الذين دخلوها، نافحًا سمَّه ومحرِّضًا هذه الفئة ضدَّ الأخرى، وللحقيقة فقط، إنَّ عدد المساجد التي دمِّرت هي أكثر بكثير من الكنائس التي لحقها الدَّمار وأنَّ عدد الأرواح التي أُزهِقت من المسلمين أكثر بأضعاف من عددها عند المسيحيِّين. إنَّ أصابع الإتِّهام يجب أن توجَّه إلى رأس الحيَّة، إلى أمريكا ومن يدور في فلكها، في حلف النَّاتو..
لقد حاولت الحكومات الإسرائيليَّة المتتالية والمتعاقبة تشجيع العرب المسيحيِّين على ترك البلاد والهجرة إلى بلاد المسيحيِّين (أوروبا، أمريكا أو استراليا) ليعيشوا حياتهم الدِّينيَّة كما يجب!
لا أظنُّ أنَّني أُدخِل جسدي عاريًا في حقل صبَّار شائك أو أسير حافي القدمين على ألواح الصُّبَّار الغضِّ أو أضع على رأسي إكليلاً من الشَّوك، لأنَّ من يشاطرني رأيي من أصحاب الضمائر الحيَّة والمتنوِّرة والواعية لحجم الجريمة التي تُحاك لنا، كثيرون..
إنَّ فرز الصَّراع في شرقنا العربي على أنَّه صراع أديان يصبُّ في مستنقع ليبرمن الآسن وأعوانه، بندائه بأنَّ دولة إسرائيل هي دولة أحاديَّة “القوميَّة”، دولة يهوديَّة، بمعنى أنَّ
أصحاب البلاد الأصليِّين العرب لا يملكون الحقَّ في بلادهم..
إذ حوَّلتهم جيوش صهيون بين ليلة وضحاها إلى شعب لاجئ يعيش ما وراء حدود فلسطين، أو لاجئ يعيش في وطنه، بعد أن صادرت أراضيه وأماكن عبادته، وحوَّلت جوامعه وكنائسه إلى مرتع للزِّنى وخمَّارات وملاه يسكرون ويلهون فيها، ويأتون اليوم كالحمل الوديع يدافعون عن مسيحيِّي البلاد ومن أجل تخليصهم من أنياب المسلمين يشجِّعونهم على الهجرة وترك البلاد. إنَّ أيدي الاحتلال وسلطته تطلب رقابنا لذبحنا من الوريد إلى الوريد كالنِّعاج، وها هي تحرق البارحة كنيسة في القدس العربيَّة في شارع الأنبياء، وتنتهك كنيسة المهد في بيت لحم بحصارها الذي دام عشرات الأيام منذ سنوات خلت، وتنتهك حرمة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشَّريفين، الأقصى، فنحن هنا أخوة في الدّم والمصير لا يُفرّقنا دينٌ ولا يُباعدُنا حدٌّ، فقد وقف الثّائر السّوري فارس الخوري وقفته الشّجاعة في الجامع الأمويّ مُعلنًا على الملأ أمام أهالي دمشق قائلاً: أنه إذا كانت فرنسا تريد البقاء في سوريا لحماية المسيحيين فإن جميع المسيحيّين هم مسلمون وجميع المسلمين هم مسيحيّون..وأن سوريا بمسلميها ومسيحييها هي وطن واحد لشعب واحد، اعتقادًا منهم أنّ مكان العرب المسيحيّين مع فرنسا وليس مع الحركة الوطنيّة السّوريّة، وفي هذا السّياق يقول شهيدنا داود تركي:
لا فَرْقَ في دِينٍ، يُوَحِّدُنَا وَطَنٌ شَريفُ القَوْمِ وَالنَّسَبِ
يجب على شعبنا أن يكون كما يقولُ شاعرنا معرِّي فلسطين الشَّيخ سليمان التَّاجي الفاروقي، ابن مدينة الرَّملة، عن ضرورة الوحدة العربيَّة، المسيحيَّة الإسلاميَّة، في سبيل كشف المؤامرات والدَّسائس ودحر المتآمرين والدَّسَّاسين، الذين يخيطونها تحت جنح الظَّلام:
يا فلسطين تباركت حمى كلُّ من يبغيك بالكيد يخيب
لست أرضًا أنت بل أنت سما مهد عيس فيك والأقصى المهيب
يأزر النَّصران فيك مسلمًا ويفديك هلال وصليب
لقد رفع الشَّيخ عزّ الدِّين القسَّام شعار تحرير البلاد من براثن الاحتلال والدِّين لله والوطن للجميع ولم يرفع شعار الإسلام هو الحلّ، ووقف الرَّفيق الرَّاحل فؤاد نصَّار، أبو خالد، إلى جانب القائد والمجاهد والمقاوم الفلسطيني عبد القادر الحسيني ليقول كلمته الشُّجاعة: “لا لنهج الحاج أمين الحسيني ونعم لنهج المجاهد والمقاوِم عبد القادر الحسيني” وأُشير هنا إلى أنَّه تسلّم قيادة فصيل المقاوِم عبد القادر الحسيني بعد أن ترك المعركة عندما أُصيب بجراح صعبة وبالغة في إحدى معارك الشَّرف قبل نكبة فلسطين ولم يرفع شعار المسيحيَّة هي الحلّ.
ولم يرفع كذلك مطران العرب حجار شعار المسيحيِّين أوَّلاً بل وضع نصب عينيْه همَّ العرب جميعًا، بكلِّ طوائفه وملله، والتَّصدِّي للاحتلال وطرده وتحرير الأرض أوَّلاً وثانيًا ومليونًا..
وليعزف داود بمزماره ويقول مزاميره للسَّلام والحبِّ والحُرِّيَّة وأن لا يخدش مسماره مزمارنا، لأنَّ هذه المسامير سوف تُدقُّها وحدتُنا في نعش الظَّالمين والمتآمرين على وحدة شعبنا وحريَّته..

Post Tags:

Total Comments ( 4 )

  • قويدر جابر says:

    رفقي : رفاقنا في الحزب لهم دور فعال في هذا التطرف نحن رفاق انهزاميين لا ننت للثوريه بشيئ بدل ما نطور مجتمعنا تراجعنا بفكرنا اصبحت الكنائس والجوامع مراكزنا تنا زلنا عن ايديولوجيتنا واصبحت نسائنا كلهامحجبه حسب فكر الحركات الاسلاميه ونسائنا من اركان الكنائس . اذا الشيوعيين تمسكوا بهذا الفكر فماذا يكون الاخروم

  • سماهر غنام says:

    وفي كل مره الضحيه تقع بالفخ , لا تتعلم بل الضحيه تجعل من نفسها فراخ صغيره تحركها تلك الافاعي السامه كالدمى نحو حرب طاحنه على اسس الحروب البارده التي تتمحور على الفتن والتفكيك لجعل الضحيه ضعيفه في ذاك الحين… ,وما من حرب داميه والا ورائها هدف مستتر للاسف .

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*