سَفَر بَرْلِك (الجزء الاول) – د. خالد تركي حيفا

الزَّمان: أيَّام السَّفر بَرْلِك، وكلمة السَّفر بَرْلِك تعني السَّفر (بالعربيَّة) وبَرْلِك هي كلمة تركيَّة تعني جماعيٌّ وهنا يُقصدُ بها تهجير جماعيٌّ، لأهل البلاد من قبل آل عثمان اثناء الحرب الكونيَّة الأولى..وتعني بالمفهوم الضِّمني التَّسفير أو التَّهجير القسري والجماعي إلى برِّ الأناضول، يوم كان شرقنا العَربيُّ يرزح تحت سلطة الامبراطوريَّة العثمانيَّة (الدولة العُثمانيَّة العليَّة)، التي حكمت بلادنا، اربعة قرون أو يزيد، بالحديد والنَّار والقمع والارهاب والتَّجهيل والتَّرحيل والتَّنكيل، حيث اصبح ذكر هذه الأيام مرادف للقتل والتَّجويع والتَّطهير العرقيِّ والفقر والمذلَّة والعذاب والعوز، وتُعرف أيضًا بأيَّام المجاعة..

المكان: بلاد الشَّام، هي البلاد التي شرَّفها السَّيِّد المسيح بولادته بها، في مهد بيت لحم، وفي لحده في كنيسة القيامة، مرورًا بجبل الزَّيتون ودرب الآلام، في القدس، لخلاص البشر، وكذلك أعزَّها الرَّسول العربيُّ الكريم، محمَّد، حين طلب من الله أن يُباركَها، متضرِّعًا “اللهمَّ بارِك لنا في شامنا..” وباركها باسرائه في جزءٍ من الليل من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، بيت المقدس، وصعوده إلى السَّماء، المعراج، حين ارتقى الى العلياء، ﴿عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ في السَّماء السَّابعة قرب العرش، فكانت بلاد الشَّام بلاد الأنبياء والأطهار والأبرار والأخيار، بلاد الحسن والجمال والبركات، حباها الله بالخصوبة، وسُمِّيت بمنطقة الهلال الخصيب، التي كُتب لها أن تنعَم بالبركات من ثمار وأنهار، لكن..

وتشمل بلاد الشَّام سورية، لبنان، الأردن وفلسطين.

ذلك الزَّمان يُشبه زمانَنا دون أن يُعيد الزَّمان نفسه، والمكان هو نفسه مكانُنا وتوأمُه، وبقي الغريبُ والطَّاغوت في رأس الهرم، وشعبُنا مكبوت ومصلوب ومغلوب في قاعدته، وكأنَّا غافلون عن الحديث الشَّريف: “لا يُلدغُ المؤمنُ من جحرٍ واحدٍ مرَّتين”. ونحن نُلدغ من نفس الجُحر مثنى وثلاث ورباع وخماس إلى ما شاء لنا من لدغات دون أن نهتدي، رغم أنَّ الهادي والمهديَّ

بيننا، أم ما زلنا نعتقد خطأً أنَّ لا نبيَّ في وطنه، وليس لنبيٍّ في وطنه كرامةً..

جاء المُنادي أو النَّاطور من الحامية العثمانيَّة في السَّراي، الحاكميَّة، الجاثمة على صدر البلدة في مكان يعلو عن باقي المناطق التي تُحيطها، الى ساحة البلدة الرَّئيسيَّة قرب العين، التي تشكِّل عصب البلدة النَّابض ومركز لكلِّ حاراتها بعد ان تصبُّ جميع روافدها بها، وبدأ ينادي بكلِّ ما أوتي من قوَّة، بصوتٍ عالٍ، على سامعين الصَّوت، ليصلَ إلى كلِّ النَّاس، بعد أن بسمل وصلَّى على آل البيت، وعلى جميع الأنبياء والأتقياء، القدِّيسين والقدِّيسات، بأن يُعلمَ الحاضرُ الغائبَ، وعلى الحاضر تقع مهمَّة نقل الخبر وإعلام من لم يحضر ولم يقشَع ولم يسمَع، عن فرمان الوالي، حيث وصل بيت مختار البلدة، ليُسلِّمه أمر الوالي ويوصيه بشبابها أن يجتمعوا في السَّاحة بعد أذان الفجر، وقرع اجراس الكنيسة لصلاة الصُّبح، ليتسنَّى للبكباشي رؤيتهم ومعاينتهم جسمانيًّا وصحِّيًّا (والبكباشي حسب قاموس المعاني هي كلمة مركَّبة من بيك وهي تركيَّة تعني الالف، وباش وهي فارسيَّة وتعني الرَّئيس) كي يجنِّد من بينهم الأقوياء والمعافين، من طوال القامة، الى المجهود الحربيِّ، ليلتحقوا بالعسكريَّة فورًا وكلُّ من عصى الأمر “ذنبو على جنبو”، “والعصا لمَن عصى”، وكان حظُّ الإعفاء من الجنديَّة يقع على أصحاب العاهات البدنيَّة والنَّفسانيَّة البارزة وعلى المُعاقين والمشَوَّهين من الشَّباب وقصار القامة، أو الذَّكر الوحيد لعائلته (لكنَّه أُلغِيَ لاحقًا) أو المتزوِّج من امرأة غريبة (الغريبة هي المرأة من خارج القرية أو المدينة) فمن أطاع الأمرَ، سَلِمت روحُه ومَن حوله من أهله وعشيرتِه وأقاربِه ومن رفض وأحجم يقع عليه الوِزر والعقاب وتحمِل عائلتُه أيضًا وِزرَه وجريرتَه وذنبَه! كافرين بالآية الكريمة ﴿..ولا تزِرُ وازرةٌ وزرَ أخرى..﴾، حيث لا يحمل الانسان ذنب غيره والجاني يجني على نفسه فقط، ويُحاسب على أخطائه، لكنَّ قوانين آل عثمان تحمِّلُ ذنب الفرد لجميع أبناء عائلته وعلى العائلة ان تحمِل وزر ابنائها، وتتحمَّل العقاب الجماعيَّ وما أدراك ما هو عقابهم الجماعيُّ، بالطّرد والنَّفي والاضطهاد، والعبث في أغراض البيت ومؤونته، ويختم المُنادي رسالته بآية كريمة ﴿..وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾، كيف لا وهو أمر صادر عن مكتب “أمير المؤمنين” في الآستانة!

استْلَم يوسف، ابن الربيع السَّابع\الثَّامن عشر، في عام النَّفير العام، في العام الخامس عشر من القرن الماضي، عام التَّعبئة العامَّة لقتال العدوِّ، كغيره ما ابناء جيله في بلدته، كغيرها من البُلدان، أمرَ استدعاء التَّجنيد الإجباريِّ مختومًا ومُوقَّعًا باسم السُّلطان، يُعلِمه فيه لُزُوم حضوره استامبول حال تسلُّمه أَمْرهُم العسكريِّ للالتحاق بالجيش العثمانيِّ، “في خيرِ جيشٍ وفي خيرِ عسكرٍ” “أي شانلي أوركو، أي شانلي أسكر”.

كانت الرِّسالةُ رسالةَ وعيدٍ وتهديدٍ ونذيرٍ، لكلِّ من لم يُنَفِّذ الأمر ولم يحضُر إلى الدَّائرة   العسكريَّة. فكُلُّنا يعرف عن كثبٍ وقربٍ وعن بعدٍ ونأيٍ، بالكلام والسَّمع، بجمال باشا السَّفَّاح، الذي نصب أعواد المشانق في السَّاحات العامَّة، في ساحة المرجة بدمشق وفي ساحة النَّجمة ببيروت، التي أُطلق عليها لاحقًا ساحة الشُّهداء، وفي باب العمود أو باب الخليل بالقدس، وامام دور العبادة حيث عَلَّق عليها كلَّ من شكَّ به أو وُشى به أو كفر بأوامر الحاكم، زد على ذلك أنَّه هجَّر الآلاف من موطِنهم وارضهم عراةً حفاةً جياعًا، الى داخل الأناضول، ومن بقي منهم عانى الذُّلَّ والهوان والمجاعة والحاجة حيث كانت تُصادَر من بيوتهم المواد الأوَّليَّة من احتيجاتهم من شعير وقمح وذرة وحنطة وزيت وسمنة وسكَّر ودواجن ودواب، حياة رعبٍ وعوزٍ وجوعٍ. لقد قال السَّفَّاح يومًا: “قضينا على الأرض بالسَّيف ونريد أن نقضي على لبنان بالمجاعة”، فيقول جبران خليل جبران في كتابه، العواصف، في فصل “مات أهلي” والتي كتبها في ايَّام المجاعة: “مات أهلي جائعين، ومن لم يمُت جوعًا قضى بحدِّ السَّيف..” ويُتابع “ماتوا لأنَّ الأفاعي أبناء الأفاعي قد نفثوا السُّموم في الفضاء الذي كانت تملؤه أنفاس الأرز وعطور الورود والياسمين”.

لقد سمع عِباد هذه البلاد أيضًا، بالسُّلطان عبد الحميد الجائر والظَّالم والمُستبدِّ والماكر والدَّاهية والمُحنَّك، الذي ملأ بلاده وبلادنا بالجواسيس الذين كانوا يرتزقون من الدَّسائس والوشايات والفساد أينما وُجِدوا، حتَّى قصر السُّلطان، يلدز، لم يسلَم من عيونه. كان السُّلطان يخاف على نفسه، من نفسه، وعلى منصبه من الإطاحة به، وعمل المستحيل السَّابع  وأكثر لضمان كُرْسِيِّ عرشِهِ. فقد كان يُعيِّن العسس على شعبه وشعوب الامبراطوريَّة، ومن شدَّة خوفه عيَّن جواسيس تُراقب جواسيسه، وكلُّهم تحت إمرة “السِّر خفيَّة”، رئيس “مخابرات” السُّلطان.

عندما كان السُّلطان عبد الحميد وليًّا للعهد، أرسله والده السُّلطان عبد المجيد الأوَّل، الى والي عكَّا، أحمد باشا الجزَّار، المعروف بطغيانه وظلمه وعنفه وبغيه وقهره والتَّفنُّن في التَّعذيب وهتك الحُرُمات، ليكون في عُهدته، ليتدرَّب عنده على ادارة السُّلطة ويتعلَّم منه كيف يحمي مصالح الباب العالي، وتلقَّى تدريباته عند الجزَّار من سمل الأعين، وجدع الأنوف وبثِّ الأحقاد والضَّغائن وحرق الكتب والمكتبات وتسليح عامَّة الشَّعب لكي يتخاصموا ويقتل بعضهم الآخر، على أتفه الاسباب، حيث قال والده: “فلنرسله الى عكَّا لكي يتدرَّب على يديِّ الجزَّار، لأنَّ سياسة العباد في هذه البلاد لا تقوم إلا على الاستبداد” (1)..

لقد كان مُخيفًا ومرْعِبًا لدرجة أنّه كانت لدى أهل البلادِ قناعةً لا جدال فيها، أنَّ للحيطان والسَّاحات والأشجار والأحجار والأزهار والأنهار والجبال والوديان والورود والسُّدود آذانًا تسمع، وأفواهًا تَشي وتسرد ما تسمع أو ما لم تسمع أو تزيد على ما تسمع أو حتَّى تسوِّف أمورًا لم تسمعها قطُّ لتزيد من حقد وغضب أعوان السُّلطان على من تكره. وكذلك عانى النَّاس من الجوع والحرمان والغلاء والقطيعة والضَّرائب الباهظة والفساد والمهانة من رجال الدَّرك العُثمانيِّ أمام أهل بيته وعشيرته وبلده.

لقد كانوا يُلزِمون الفلاحين والفقراء، دفعَ الضَّرائب، بالطَّريقة التي تحلو لهم وكانوا يجازون كلَّ من لم يدفع، من فقير ومسكين ومعدوم أو معارض ومخالف ومعاند، إذ كانوا يركِّبونه على خازوق حتى موته امام اعين النَّاس ليكون عبرة لغيره. وكانت الضَّرائب متنوِّعة فمنها ضريبة تُفرض على اصحاب البيوت (المسقَّفات)، ضريبة الأملاك من اصحاب الأراضي (الويركو)، ضريبة الطُّرق (الدَّربيَّة)، ضريبة تُفرض على ابناء العائلة من الذُّكور، الذين بلغوا سنَّ الرُّشد (الرَّأس) وأخرى تُجبى من أصحاب المواشي، من أبقار وجِمال وأغنام وماعز وخيل..

وكما ذكرتُ أنَّ الخازوق كان من إحد العقوبات، وهو عبارة عن عَمودٍ، مُدَبَّبٍ حادِّ الرَّأسِ،

يُجلِسُونَ المُعاقَب عَليهِ، فَيَدخُلُ من دُبرهِ ويخرُجُ من ايِّ مكان من جسمه، كما نقول في لغتنا العامِّيَّة “ضربو خازوق طلع من راسو”. ويصف الكاتب اللبنانيُّ مارون عبود تلك الفترة في كتابه “صقر لبنان” ظُلمَ السُّلطان والولاة “فكانوا يُطيِّرون الرؤوس عن هاماتها كأنَّها فقاقيع صابون يتلهَّى بها الصِّبيان ويقهقون عند انفلاتها”.

وقد كتب الأديب جبران خليل جبران في رسالة ارسلها لصديقته الأمريكيَّة ماري هاسكل، يشرح فيها وضع الأهل في بلده لبنان:”ناسي أنا، ناس جبل لبنان، يموتون الآن من مجاعةٍ خطَّطت لها الحكومة التُّركيَّة. ثمانون ألفًا ماتوا حتَّى الآن. ألوف يموتون يوميًّا. ما حدث في أرمينيا يحدث الآن في سورية، وجبل لبنان باغلبيَّته المسيحيَّة يُعاني أكثر، بإمكانك تصوُّر ما أمرُّ به حاليًّا يا ماري. لا استطيع النَّوم ولا الأكل ولا الرَّاحة. كلُّ السُّوريِّين هنا (في المهجر) يعانون العذاب نفسه. نحاول قدر استطاعتنا أن نفعل شيئًا، علينا أن ننقذ من لا يزالون على قيد الحياة.

صعبٌ جدًّا أن اتحمَّل. صعبٌ جدًّا”.

سافر يوسف مُكْرهًا إلى الجبهة، بعد أنْ تسلَّمَ الفرمان، رغمًا عنه وعن أهله، طاع الأمر مُجبرًا وخوفًا على نفسه وحياته وحياة أهله، حيث كان معروفًا أنَّه من ذهب الى الجنديَّة، ذهب إلى مجهول وفراق الأهل والأحبَّة، ومن يعود منها يكون الله قد كتب له عمرًا طويلاً وإن نجا من مكيدة يكون قد كُتِبت له حياة جديدة، “الذَّاهب اليها مفقود، والرَّاجع منها مولود”، حيث أنَّه من لم يمُت بحدِّ السَّيف مات قنصًا أو برصاصة على مقربة منه أو مات جوعًا أو بردًا أو إرهاقًا وتعبًا، ﴿..وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ..﴾، من يستطيع ان يتنبَّأ موتَه، وكيف سيموت واين سيموت وكيف سيُلاقي باريه الكريم والرَّحيم! “فخيرٌ للمرء ان يُقتل على عتبة بيته من ان يموت تحت جدار الغرباء”، إذا كان من الموت بدٌّ! فهل يعود الى اهله ام سيبقى هناك ويستقرُّ بين الغرباء، ولو مات هناك، هل سيحظى بشاهدٍ على قبره مع اسمه، وهل هناك من سيبكي عليه وينوِّح له، فهو شاب أعزب فهل سيجد من يزفَّه في موته “شيِّعوا لاولاد عمُّو يجولو بالطُّبول والزُّمور..” ام أنَّه سيُدفن في التُّراب دون اسمٍ فوق راسه ودون ان يُصلَّى عليه، الصَّلاة على الميِّت، طالبًا له المغفرة والرَّحمة، حيث “لا وجع ولا حزن” ويغسله “بالماء والثَّلج والبرد” وتقام عليه الصَّلاة، ام سيموت دون إكرام للميِّت، ويبقى لقمة لوحوش البريَّة الضَّارية والطُّيور الكاسرة وحشرات الأرض وثعابينها وعقاربها! لكنَّه يُطمئن نفسه أنَّه لن يُشغِل باله بشيئٍ بعد موته لأنَّ الميِّت لا يشعرُ بشيئٍ، لكن ماذا عن “عذاب القبر أو عذاب البرزخ” هل يشعر الميِّت في قبره العذاب؟ ميتٌ يشعرُ؟ إذًا فهو ليس بميِّت هو حيٌّ! أم أنَّه سيفنى ويُبعث من جديد! كان يقول دومًا يا ربَّ العالمين ساعدني وانقذني! هل سيموت في الحرب ويتعذَّب في القبر؟ لكنَّه ليس بكافر ولا جاحد ولا زنديق أو ملحدٍ ولم يؤذِ احدًا البتَّة، حتى الجرذان التي كان يصطادها بعد أن “تعلق” في الفخِّ في مخزن المونة، كان يُطلق سراحها في الجبال، بعد أن يسير مسافة لا بأس بها ليعطيها حرِّيَّتها، حيث لا يذكر إن كان قد ارتكب مرَّة معصيةً، لكن مجرَّد التَّفكير بصورة موته اللئيمة والعنيفة يثير قشعريرته إلى حدِّ الارتجاف والهلع والخوف والرَّيبة..

ويفكِّر في أمِّه، هل ستعرف بوفاته! كيف ستعرف ومن سيُعلِمُها، أم انَّ قلب الأمِّ دليلها، آه يا أمِّي اين انتِ، ضُمِّيني وارحميني واحميني، وأطلب رِضاك، دومًا، منذ ان كنتُ في حماك، فرضى الله من رضاك، فانا مطيعك ومعينك وحبيبك الى يوم الدِّين، منذ أن اسميتيني يوسف، لأنَّ “السِّيماء في الأسماء” ولا يعرف أحدٌ متى ستكون ساعته، فهل ستُقام عليَّ صلاة الغائب أم انَّني سأحظى بصلاة الحاضر على جثَّتي! هل سيكون النَّبيُّ يوسف شفيعًا ومعينًا وحاميًا ليوسف، وهل نال اسمه لكي يحفظه النَّبيُّ..

تُرى هل سأحظى بزيارة الموتى كلَّ عام..

لقد صالت وجالت في خلده افكارٌ عن مصير والديه واخوانه “زُغب الحواصلِ لا ماءٌ وشجرُ” ولماذا سيذهب ليُدافع عن احتلال آل عثمان ومصالحهم وأطماعهم، وعن وطن ليس وطنه، وعن قضيَّة غير عادلةٍ، “لا ناقَةَ لي في هذا ولا جَمَلُ” وأن يُدافع عن ظلمهم لأهله في هذه الدِّيار وهو الذي تربَّى على نُصرة المظلومين، وإغاثة المحرومين، والوقوف ضدَّ الظَّالم، والذَّود عن حياض الأرض والعرض، حيث سمع كما سمع أهله عن الجنود، من غير الأتراك، الذين يُهانون ويُحتقرون ويُضرَبون ويموتون جوعًا وعطشًا، وقال في نفسه، وهو أضعف الإيمان: ومن أجل من أُحارب، وعن أيَّة مصلحةٍ أُدافع، وكيف لي، كفلاح، أن أُحارب اخوتي الفلاحين في الطَّرف الثَّاني من المعركة، كيف لي ان أخدم مصلحةَ الظَّالم العاتي والإقطاعي الجائر والمستبدِّ الطَّاغي..

كان يوسف كتومًا، سكوتًا، فكره في عُبِّه، رأيه في جُبِّه، وسرُّه في بئره، لا يستطيع احدٌ معرفة أيِّ شيئٍ منه، او ما يجول في خلده، في فكره وعقله، إلا ما يريده منك ان تعرفه، فلم يرد إشغال ذويه في هواجسه..

فلو كانت المعركة من أجل رفاهيَّة الفلاح لقدَّم دمَه قطرةً إثرَ قطرةٍ دون أن يبالي، وحمَل روحَه على كفِّه، ووضع دمَه على راحته من أجل راحته وراحة باقي الفلاحين والفقراء والمعوزين، في طرفيْ خطِّ القتال، وإن المعركة من أجل إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه لرخصت حياته وكان “زاهدًا فيما سيأتي”، فكيف له ان يحارب الجنود في الطَّرف الثَّاني من خطِّ المعركة، فهم مثله، أشقَّاؤه في الشَّقاء والاضطهاد والاستغلال، مغلوب على أمرهم، فلماذا لا يتَّحدون ضدَّ الظَّالم، كلٌّ في وطنه، بدلاً من ان تتقاتل جميع الفئات المظلومة والمضطَّهدة من اجل الحاكم القاهر والجائر!

طبقة واحدة تتحارب وتتعارك وتتقاتل، بين بعضها البعض، من أجل مصالح الآخرين، فحرام على هذه الدِّماء التي تُراق من أجل الطَّبقة الظَّالمة والمستغِلَّة على طرفي الحدود! دماء الغلابى والمساكين والفقراء والتُّعساء والبؤساء تُراق، كم كان يتمنَّى أن يكون طيرًا أو من الحمام الزَّاجل، ليَطير إلى الطَّرفِ الآخر “جيش العدو” ليُقنعهم أنَّهم في الهمِّ واحد وانَّ معركتهم ضدَّ الظَّالم، من الطَّرفين! ويقول في نفسه “حبَّذا لو توحَّدنا”! وكأنَّه سيقفز من مكانه ليقول للجنود المتحاربين بين ضفتي المعركة، على الملأ: “إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ”، كما جاء في الحديث، فهيَّا بنا نقف سويَّة ضدَّ الإقطاعيِّين والأغنياء وأصحاب الأراضي والحكَّام المتنفِّذين لنعلنها عليهم حربًا عنيفةً شعواء..

وقال في نفسه: آه لو أنِّي طير لطرتُ وحلَّقت الى الطَّرف الثَّاني من خطِّ النَّار لاقول لإخوتي العمَّال والفلاحين والمضطهدين مثلنا، أن نتَّحد ضدَّ هؤلاء مصَّاصي دماء الشُّعوب المتحاربة..

“من أجل من تُحاربون؟ عن ايَّة مصالح تُدافعون؟ لقد ارسلت الحكومة القيصريَّة ملايين الجنود الى خطِّ النَّار لكي تستولي على بلاد جديدة، وتضطَّهد شعوب تلك البلاد،..تلاقون حتفكم في الصِّراع من أجل مصالحهم وتقتلون الكادحين امثالكم” (2)..

 فيقول يوسف في نفسه “انا لستُ عثمانيًّا، إلا بالاسم فقط، لأنَّ وطني العالم، لستُ عربيًّا ولا انجليزيًّا ولا فرنسيًّا ولا المانيًّا ولا تركيًّا، بل انا فردٌ من افراد هذه الإنسانيَّة (خليل السَّكاكيني)، مقولة جميلة تحمل في ثناياها اجمل وارقى شعور لخالص المبادئ الأمميَّة، والتي تجلَّت لاحقًا في شهيد الجمهوريَّة الإسبانيَّة، الشَّاعر والرِّوائي والفنَّان والرَّسَّام وعازف بيانو فيديريكو غارسيا لوركا، في ساحات الشَّرف في مقاومته الفاشيَّة والنَّازية المتمثِّلة في شخصيَّة الطَّاغوت فرانكو في الثلاثينات من القرن المنصرم، حيث انشد “الأمميَّة” عندما حكموا عليه ميدانيًّا، بالرَّمي بالرَّصاص، “لقد طار ضبان” عقل المجرمين، فقبل إنشاده الأمميَّة قال: فأنا أخ الانسان..

لم تكن ليوسف او لعائلته علاقات اجتماعيَّة للحؤول دون التَّجنيد، ليحصُلَ على إعفاءٍ ولم يكُن بمقدور عائلته ان تدفع بِرطيلاً (رشوة) أو بَدَلاً (والبَدَلُ، البدل العسكريُّ، هو مبلغ من المال يُدفعُ الى الحكومة لإعفاء من يُطلب الى الخدمة العسكريَّة الاجباريَّة)، حيث كان المبلغ يتراوح بين عشرين الى خمسين ليرة عثمانيَّة نقدًا (3)، ليتوسَّط له المختار عند الاميرالاي أركان حرب، قائد المنطقة، مفتِّش المقرِّ الاداريِّ للجيش العثمانيِّ ليغضَّ الطَّرف عن أمر التَّجنيد، أو عند الأمباشي (عريف يحمل شَرطَتين على كتفيه)! ومنهم من دفع البدل العسكريَّ، وطولب بالخدمة العسكريًّة لاحقًا (فش اشي مضمون)، أو أن يذهب الى الطَّبيب للمعاينة، لإصدار مَرَضيَّة، تشهد له على أمراضه المُزمنة التي تمنعه من الالتحاق بالجنديَّة، وأحيانًا كان الطَّبيب يعفي من الجنديَّة ويبقيه بين أهله موظَّفًا أو كاتبًا، ومن لَم تكُن له أيَّة امكانيَّة من تلك الإمكانيَّات التي ذُكرت تجنَّد، ومنهم من هرب من التَّجنيد إلى الجبال ويُسمَّى “فراري” أو “مُشرَّد”، وكانت العقوبة، إذا قُبِضَ عليه، الشَّنق في السَّاحات العامَّة ليكون عبرة لغيره وليَعتَبِر غيره إن جال في ذهنه رفض الأمر، لذلك اختفى الرِّجال من أحياء البلدة مخافة التَّجنيد، ولقد كانت حياة الفراري احيانًا أصعب وأقسى من حياة الجنديَّة، حيث كانوا يختبئون في الاحراش وعلى قمم الجبال، او في الوديان والمغاور، وبعضهم من سرى ليلاً لأهله ليعاونهم في مجهودهم في فلاحة الأرض من حراثة وزراعة وتشذيب لدفع خطر موتهم جوعًا..

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*