سَفَر بَرْلِك (الجزء الثاني) – د. خالد تركي حيفا
- by منصة الراي
- November 10, 2017
- 1
- 2433  Views
- 0 Shares
وقد كانت والدته تتضرَّع، دومًا، إلى العاطي الوهَّاب، ما كان يتمنَّاه النَّبي داود:
يا رازقَ النَّعَّابِ في عشِّه، ارزقني! والنَّعَّاب هو فرخ الغُراب، والغُراب من أذكى الطُّيور، وحين يرقد على بيضه ليُفقِّس، تخرج افراخه من بيضها، بيضاء كالثَّلج نقيض لونه، الأمر الذي يُثير استغرابه لسواده وبياض فراخه، فيهجرها، لكنَّ منقار النَّعَّاب طيِّب الرَّائحة، وعطره فوَّاح ممَّا يجذب إليه الدِّيدان والحشرات لتدخل منقاره وتكون له غذاءً، وبعد فترة يعود الغُراب إلى عشِّه ليجدَها على شاكلتهِ، ويبدأ بتغذية فراخه..
قلقٌ دائمٌ وخوفٌ داهمٌ ورعبٌ حائمٌ، وتمنِّيات بزوال الحال..
لقد جسَّدت أغنية ع الأوف مشعل قصَّة الفراري..
كان “مشعل ابن شعلان” فراريًّا، حيث يُحكى أنَّه عاد من مخبئه سريًا ليلاً الى بلده، فانتشر الخبر “كالنَّار في الهشيم”، “ويا بنت قولي لامِّك” تجمَّع الأهل والاقارب والاصدقاء، حوله، ليسمعوا منه اخبار الاحباب والغُيَّاب هناك، بعيدًا بعيد، فاقترب مشعل من رجل رجلٍ غريبٍ قرب العين سائلاً، عن حاجته، فلم يفهم الغريب سؤاله، وجاوبه بالتُّركيَّة حيث لم يعرف لغته، وشعر أنَّه أوقع نفسه في فخٍّ كان في غِنىً عنه، فعرفت عين السُّلطان (الدَّولة العليَّة)، انَّه فراري، فقبض عليه واعتقله، وكان في جيب ابن شعلان “مجيدي” (قطعة ذهبيَّة) فناوله ايَّاها على أمل تحريره من الاعتقال، لكنَّه “طلع ملعون والْدين” اخذَ المجيدي واعتقل مشعل!
كتب الشَّاعر توفيق زيَّاد في كتابه “صورٌ من الأدب الشَّعبيِّ الفلسطينيِّ”:
انا شُفت “القانون” جاي من بعيد
وحبِّيت اهرب ما طلع بإيدي
قال لي: الوثيقة ناولتُه مجيدي
لطش المجيدي وقال لي: انت فراري
هناك مجموعة من أصدقاء يوسف، تركوا البلاد هاربين إلى ما وراء البحار، بعد ان اختبأوا في حاويات بحريَّة تحمل بداخلها جذوع الاشجار الضَّخمة التي تمَّ تقطيعها من غالبيَّة احراش بلادي وتحويلها الى حطب ووقود للسُّفن، زد على ذلك انَّه تمَّ نقل الكثير من البضائع الأوَّليَّة الأخرى، الى السُّفن الكبيرة التي كانت ترسو في عرض السَّاحل الكرمليِّ او العكِّيِّ او اليافيِّ، حيث تسلَّلوا بواسطة قواربها الصَّغيرة اليها، فمنهم من وصل إلى الأرجنتين أو البرازيل في القارَّة اللاتينيَّة أو بوسطن وغيرها في القارَّة الشَّماليَّة، أو أوروبا حيث حطَّوا رحالهم فيها واستقرُّوا هناك ومنهم ظلَّ على ظهر هذه السُّفن ليعمل فيها بحَّارًا، ومنهم من عاد الى بلاده بعد ان علِمَ بانتهاء الحرب بعد أن قتله الشَّوق للرُّجوع الى اهله وبيته وعائلته وحارته أو جارته!
وعندما عادوا، وجدوها ترزح تحت احتلال من نوع آخر، يحمل اسمًا آخر، “إنتداب” فقد
انتُدبت بريطانيا وفرنسا لحكم المشرق العربيِّ، وهكذا استمرَّ الظُّلم للشَّعب تحت “رعاية” أخرى، لقد سيطروا على بلادنا بحجَّة الإنتداب، كي “نتعلَّم تدبير وادارة شؤون دولتنا بأنفسنا”، وما كانوا إلا مُحتلِّين وطغاة ومتآمرين على وطننا وشامنا وأهله، فانتقل شعبنا “من
تحت الدَّلفة إلى المزراب”..
وهناك رواية عن شخصٍ، من بلدة مجاورة لبلدة يوسف، حيث هرب من الجنديَّة بعد أن أُرسِل إلى الجزيرة العربيَّة، ولم يقدر على فراق أهل بيته وعشيرته، فترك أرض الحجاز مشيًا على الأقدام وحين وصل دياره، استقبله أهله سرًّا، تناول طعام العشاء وتسامر مع اهله ونام ليلته الهادئة في بيته، ليستيقظ على صياح جنود آل عثمان وهم يقفون فوق رأسه، حيث اعتقلوه وأرسلوه ثانيةً، بعد أن تلقَّى جزاء هربه، الى نفس مكان خدمته في الجزيرة، من حيث أتى!
سافر يوسف، ولم يملك من زاد سفره شيئًا، كان يفتِّش في طريقه عن مصدر رزق له ولأهله ليُنقذهم من جوعهم وعوزهم، سافر الى “حرِّيَّته” هربًا من خازوق العُصملِّي ومن حبل مقصلته، ومن سجنهم وفَلقتهم، فقد سافر لعلَّه يجد نصيرًا وزادًا لأهله أو يلقى ﴿..اللؤلؤ المكنون﴾ الذي لم تمسُّه يدٌ ولم يشمُّه انفٌ ولم يدخل قلبًا، يفتِّش عن لؤلؤ عذريٍّ صافٍ، ناصعٍ في البياض وكاملٍ في الطُّهر وخالصٍ في الصَّفاء وطاهرٍ في النَّقاء وعظيمٍ في البهاء..
لم يعرف يوسف ماذا يُحبُّ؟ ولماذا يُحبُّ؟ وماذا يُنفقُ؟ ولماذا ينفقُ؟ إذ لم يملك شيئًا غير ثيابه، فقد سمع أحدهم يتلو على صديقه، وهما على ظهر الباخرة، وهي تمخِر بهم عُباب اليمِّ، الى برِّ الأناضول آيةً كريمةً ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، اذ لم يكن لديه مالاً يُنفقه ولم يعرف ماذا يُنفقُ من افضل ماله، حيث لم يملك غير جلدة رأسه وقُلْفةٍ ارتاح منها منذ عقدين من الزَّمن أو أقل، أي بعد مولده بسبعة ايَّامٍ، ولم يكُن من الجوى غير الودِّ للوالدين والإحسان لهما. أمٌّ تملك الجنَّة تحت أقدامها، وأبٌ لا يملك شيئًا غير الطَّهارة والبرِّ والإحسان، ودعوات لربِّ الصَّباؤوت ان يفكَّ أسر ووثاق المحزونين والمظلومين والمسجونين والمغبونين، حيث أنَّ مشيئَته العُليا سيَّان، كما في السَّماء كذلك على الغبراء، إذ لم يملك والده غير حبِّ ورضا ربِّ العالمين..
يُذكر أنَّ العرب من غير المسلمين، قبل الحرب الكونيَّة الأولى، بخمسين عامًا، كانوا يدفعون الجزية (تُفرض على الرِّجال البالغين) والخراج (تُفرض على مالكي الأراضي، ضريبة الأملاك)
الدَّولة العثمانيَّة (الدَّولة العليَّة)، كونهم من أهل الذِّمَّة ومن أهل الكتاب، ليتمَّ اعفاؤهم من الخدمة العسكريَّة، مقابل حرِّيَّتهم في العبادة وحماية اماكنهم المقدَّسة، إلا أنَّ الاصلاح الدُّستوري، الاصلاحات الخيريَّة (إصلاحات خطِّي شريف همايون عام 1856، السُّلطان العثماني عبد المجيد الأوَّل)، عندما مَنح غير المسلمين بالعبادة أسوة باخوانهم المسلمين، ويضمن للمسيحيِّين الأمن والأمان والتَّعامل معهم كأهل ذمَّة واهل كتاب وكذلك يضمن لهم السُّلطة الدِّينيَّة على وقفهم من كنائس واديرة واماكن عبادة ومزارات، وذلك بضغط من الدُّول الأوروبيَّة، حيث يُذكر أنَّه في عهده وفي عهد ابيه محمود الثَّاني ضعُفَ تداول العلماء الأتراك باللغة العربيَّة، بإشارة منهما، لكي يُحيي اللغة التُّركيَّة وسمَّوها اللغة العُثمانيَّة، بعد ان كانت اللغة العربيَّة لغة الدَّولة والعلم وكان ملوك آل عثمان، في عهدهم الأوَّل، يتعلَّمونها ويتعلَّمون آدابها، بحسب ما جاء في كتات الزَّيَّات، (4) وكان قد أجبر جميع العرب، على اختلاف انتماءاتهم الطائفيَّة والمذهبيَّة، على الجنديَّة، مقابل إعفائهم من ضريبتي الجزية والخراج، ومن لا يريد الخدمة جاز له البَدل.
وذلك بعد اصدار “قانون الولايات” عام الفٍ وثمانمائة واربعة وستِّين، الذي فُرضَ على أبناء الأقليَّات الدِّينيَّة من العرب، من غير المسلمين، الخدمةَ في الجيش.
لقد كانت تعمل عائلة يوسف في أرض الإقطاعي، ما بين الزِّراعة والحراثة والرَّيِّ والتَّسميد والعناية والصِّيانة، وفي عام الجراد (في العقد الأوَّل من القرن المنصرم) عملوا على مطاردة الجراد لإبعاده عن الأشجار والنباتات والمزروعات، بالضَّجيج تارةً والخبط والضَّرب على التَّنك الفارغ باكفِّهم تارةً اخرى او بالصَّلاة الى القهَّار السَّميع، راجينه أن يُحضر طيور السُّمَّن الى المكان حالاً، لأنَّ الجراد يهرب من صوت هذه الطُّيور، حيث كان والده يعمل في تلقيط الجراد وقتله وتسليمه للمسؤولين ويتلقُّون من ذلك مردودًا نقديًّا! ونفس الأجر يكسبون من تجميع بيض الجراد بعد أن يسلِّموه للإدارة، ومن لم يستطع القيام بهذا المجهود، يُجبَر على دفع غرامة ماليَّة موزَّعة بحسب مقدرة العائلة ومركزها الاجتماعيِّ، مثلاً الأغنياء ليرة عثمانيَّة، وعلى متوسِّطي الحال دفع ستِّين قرشًا والفقراء ثلاثين! وذلك إثر قرار حكوميٍّ يلزم الرِّجال الذين تتراوح اعمارهم ما بين الخامسة عشرة والسِّتِّين، وكان عليهم ان يجمعوا عشرين كغم من بيض الجراد. وكانوا يجبرون الأطفال، بعد أن يُخرجوهم من المدرسة، على حفْرِ حُفَرٍ في الأرض ودَفْن ما جمعوه من جراد وبيض وتغطيته بالكلس ومن ثمَّ تغطيته بالتُّراب داخل هذه الجيوب..
لقد سافر يوسف، وقد حرق قلبَه وقلبَ والديْه لهيبُ الوداع، راجلاً برًّا إلى بيروت، لبنان، ومنها ماخِرًا عباب اليَمِّ إلى اليونان ومن ثمّ إلى الآستانة (القسطنطينيَّة) (5)، وحين أدار ظهره تاركًا بيته، رفعَت أمُّه يديها للمولى، “المأمول منه النَّصر والمعونة”، وللقادر “..صاحب النُّفوذ والسُّلطان والتَّصرُّف التَّامِّ في جميع الأكوان، الذي لا يُعجزه شيئ في الأرض ولا في السَّماء، الله قادرٌ على كلِّ شيئ” متضرِّعةً أن يُبعدَ عنه اولاد الحرام والظَّلام وبنات الغرام ويُبعد عنه كذلك الحُكَّام والظُّلام.
فتلَت على وحيدها، يوسف، ثلاثة ادعيةٍ، “دعاء ضدَّ الاسلحة ودعاء المعركة ودعاء وقت الهجوم” (6) ان يكون صدره صخرةً لا تنفذ رصاصة فيها، وسندان ترتدُّ عليه المطرقة، وان يحميه من السَّيف والحسام والخنجر والرُّمح، ومن قذائف المدفعيَّة والأسلحة الفتَّاكة، وختمت دعاءها أن يدافع عنه الله من كلِّ الجهات الأربع، وان يلفَّه بالسَّحاب، وان لا يدعَ الأشرار يُطلقون النَّار عليه، وأن يذهب الحديد لأمِّه الأرض، وأعواد السِّهام إلى الغابة، حتَّى لا يبقى على الأرض سلاحٌ! وأن تكون في نار المعركة رحمة الباري عليه وعلى رفاقه بردًا وسلامًا!
وصل الى استامبول وبُهِر بعظمتها وفخامتها وكِبرها، وفُتِنَ بجمال مساجدها التي لا تُعد ولا تُحصى، وخلَبته واستهَوته كثرة مآذنها، فحول كلِّ مسجد هناك العديد من المآذن متنوِّعة الارتفاع ومتباينة في الكِبر والشَّكل والهندسة، تعلو السَّماء تناطح السَّحاب..
بعد ذلك اتَّجه الى دائرة التَّجنيد، تسجَّل وتسلَّم زِيَّه العسكريِّ، ومرَّ الجنديُّ يوسف بفحوصات طبيَّة، حيث سُمِحَ له بعدها، ببدء دورات عسكريَّة ولغويَّة، حيث التقى هناك بمجنَّدين من أقاليم بادية الشَّام، المشرق العربيِّ، من سوريِّين ولبنانيِّين وعراقيِّين ومجنَّدين من دولٍ اخرى من البلغار والألبان والأكراد ومن الاتراك كذلك، زد على ذلك من الحلفاء من هنغار ونمساويِّين وألمان.
لقد حرق تفكيرُه قلبَه، إذ كيف يترك أهله في حالة الفقر والعوز والحاجة والمجاعة والغلاء والحرب التي عاشها أهله، خاصَّة بعد هجوم الجراد على البلاد وأكل الأخضر واليابس، حتَّى أنَّه يُروى “وكانت تلك السَّنة مَحْلاً، وانحبست الأمطار وغزا البلاد والقدس الجراد، بصورة فظيعة جدًّا فإنِّي أذكر تمامًا والله يشهد أنَّني عندما كنتُ نازلاً على سُلَّم البلديَّة رفعتُ رأسي إلى السَّماء مع جميع النَّاس فلم نستطع رؤية الشَّمس قطعيًّا فكان الجراد الطَّيَّار شبيهًا بالغيوم المتكاثفة في الجوِّ مما حجب نورَ الشَّمس عن الأرضِ” (7) زد على ذلك أنَّ السُّلطان عبد الحميد قطع جميع الأشجار المُثمرة وأعطى خشبها للألمان (دخلت الامبراطوريَّة العثمانيَّة في الحلف الثُّلاثي، مع ألمانيا وإيطاليا والامبراطويَّة النمساويَّة المجريَّة، في العام الف وتسعمائة واربعة عشر) لبناء قطاراتهم وليكون مصدرًا للوقود والبناء، وكذلك انتشرت الأوبئة، الكوليرا والتِّيفوس والحمَّى، فكيف يتركهم لينعم بحياة “البذخ”، نسبيًّا، من الطَّعام المجَّانيِّ والإقامة الرَّتيبة ومن حياة الجنديَّة المرتَّبة، مع انَّ حياة العساكر العاديِّين كانت شقيَّة وبائسة وحياة قنوط وفقر.
كلَّما ازدادت المسافات ازداد هوىً وحنينًا لأهله واعزَّائه، وكلَّما طال زمن الفراق ازداد شوقًا وتوقًا والتياحًا والتياعًا لبلده باشجارها وثمارها واحجارها وانهارها ومهما ابتعد عن الشَّاطئ الشَّاميِّ ستبقى الشَّام تجري في عروقه دمًا وماءً سلسبيلاً كما تجري المياه الغزيرة في الوادي وسيبقى طعمها شاميًّا، عذبًا، نميرًا وزاكٍ..
آه يا شام، يا بنت العزِّ والدَّلال، يا ابنة الأكابر، كم انت غالية علينا وكم يرخص الغالي علينا لعيونك يا شام..
“مسكينة حالة هؤلاء العساكر التُّعساء. تَعبٌ وجُوعٌ وعَطشٌ وطَفرٌ وثيابٌ قذِرةٌ والاهانةُ والضَّربُ واللكمُ على رؤوسهم. إنَّها لحالة تعيسة، لم أرَ أطوع من الجنود العثمانيَّة. فإنَّهم ينقادون قيادةً عمياء حتَّى المتنوِّرين منهم يخشون كلَّ الأوامر ويحسبون حساب أيِّ ضابطٍ كان ويعبِّرون عن الذُّلِّ والمسكنة. فجنود هذه حالتها لا يُرجى منها خيرًا” (8)، بالرَّغم من هذه الحالة كانوا يُنشِدون “سرحده دوغرو أي شانلي أسكر” أي سر نحو الأعادي يا خير عسكر! ولم يهدأ ليوسف بالٌ ولَم تستقر له حالٌ ولو للحظة واحدة، “مش راكبي ع راسو” لأولئك الذين يُنادون بالأخوَّة العربيَّة التُّركيَّة، وبتعزيز سُلطة السُّلطان، الخليفة، وكيف يمكن أن تكون هناك اخوَّة بين الرَّاكب والمركوب أو بين الظَّالم والمظلوم..
لقد كانت نيَّة العثمانيين حينها تتريك العرب، وتعليمهم اللغة التُّركيَّة بدلاً من العربيَّة، وراحوا إلى أبعد من ذلك، إذ قاموا بعمليَّة نقل بعض السُّكَّان العرب عن طريق السِّكَّة الحديديَّة الحجازيَّة، من بلاد الشَّام ومن أرض نجد ونجران والحجاز في الجزيرة العربيَّة، إلى داخل أراضي آسيا الصُّغرى، إلى بلاد الأناضول وبالمُقابل تمَّ نَقْلُ بعض الأتراك إلى البلاد العربيَّة بهدفِ تفريغ وطننا العربيِّ من سُكَّانه الأصليِّين وتغيير الطَّبيعة السُّكانيَّة، لقد حاولوا بذلك إحكام سيطرتهم على بلادنا بكُلِّ الطُّرق والوسائل، لكنَّهم كما هو معلوم فشِلوا في ذلك، بعد أن تمادوا في غيِّهم وطُغيانهم، ورُدَّت سيوفهم إلى نحورهم، وطوى الطَّاغوت ذيله، ولو بعد حين (اربعة قرون أو يزيد).
لقد بدأ يوسف بتعلُّم اللغة التُّركيَّة، أسوةً بباقي المُجنَّدين، وكانت فاتحة التَّعليم بالجملة التَّالية:
تُركي بِلِيُور، الله بِلِيُور
تُركي بِلْماز، الله كُورِكْماز
أي من يعرف اللغة التُّركيّة، يعرفُ الله ومن لا يعرفها، لا يخاف الله ويتنكَّر لوجودِه، ويكون كافرًا وجاحِدًا ومُلحِدًا وعديمَ النَّاموس ومثواه جُهَنَّم الحمراء، خالِدًا فيها، ولن يدخُلَ الجَنَّةَ قطُّ ولن يرى أنهارها الجارية من تحتها ولا يُحسِنُ الله له رِزْقًا ولن يكون بعونه أبدًا. لقد حاول آل عثمان استقطاب ولاء العرب لهم ليكونوا على استعدادٍ للتَّضحية بحياتهم في سبيل السُّلطان والخليفة و”الأمَّة العثمانيَّة”.
ومن يقوى على مقاومة وانتقاد السُّلطان من آل عثمان!
ومن يستطيع الوقوف ضدَّ الإرادة الإلهيَّة والذَّات الشَّاهانيَّة! ومن يمكنه رفض أوامره! وهو خليفة النَّبيِّ محمَّد (ص) وأمير المؤمنين وظِلُّ الله على الأرض؟ لا أحد..
لَبِسَ يوسف زيَّه الرَّسميَّ وباشر بالتَّدريبِ والتَّعرُّف على مدينة استامبول وبحرها ومضائقها وحاراتها وأزقَّتها، وشمس مغيبها على البوسفور، عند قرن الذَّهب، وقصورها وقد ترك قصر يلدز (وكلمة يلدز تعني نجم او كوكب)، أشهر قصورها، ذكريات في قلبه لا تُنسى، فلا ينقص القصرَ شيء من جمال وروعة وفنِّ بناء، هندسيٍّ ومعماريٍّ، وترتيب الحدائق والبُحيرات ومقابل هذا الجمال والبهاء الخارجيِّ كان معروفًا بقصر الظُّلم والطُّغيان وبيت الطَّاغوت ومدفن الأحرار والثُّوَّار.
كتابة رائعة نقل واقع الحال في هاتيك الفترة وكأن الكاتب قد عاشها .لعنة الله ع آلِ عثمان ومن لفّ لفهم ما قد فعلوه في الأمة العربية وبالذات في بلاد الشام .ولكن كل هذه اللعنات لم تُسمع فقد عاثوا فساداً في البلاد خمس مئة سنة
تباً لهم