عبد الناصر كان بطلا واجه القضايا حتى النهاية (4) – اسكندر عمل

الشعب المصري يودع قائده عبد الناصر

*فك الوحدة لم يثن الجمهوريّة العربيّة المتّحدة عن الاستمرار في محاولات تحقيق الوحدة العربيّة.

*حرب حزيران 1967  كانت بتنسيق تام بين المخابرات الأمريكيّة والمؤسسة العسكريّة الإسرائيلية.

*حرب حزيران هدفت إلى القضاء على الأنظمة التّقدميّة في مصر وسوريا لكنّها فشلت في تحقيق هذا الهدف*

بعد فك الوحدة بقيت مصر” الجمهوريّة العربيّة المتّحدة” منطلقة من أنّ متناقضات العرب العميقة الزّاخرة لا بدّ أن تنتهي ذات يوم.  ولم تتوقّف عن المحاولات لتحقيق الوحدة العربيّة، فبعد سقوط حكومة الانفصال في سوريا ووصول البعث إلى الحكم عام 1963، ووصول البعث إلى الحكم في العراق في العام ذاته،  بدأت مباحثات للوحدة بين الأقطار الثّلاثة مصر وسوريا والعراق لكن هذه المباحثات لم تثمر. وابتداء من عام 1964 نجحت مصر في استنفار الدّول العربيّة لعقد مؤتمرات قمّة تميّزت قراراتها بمعاداة الامبرياليّة وتأييد قوى التّحرر والسّلام.  فقد اتّخذ مؤتمر القمّة العربي الأول الّذي عقد في القاهرة في كانون الثّاني 1964 مقررات شجبت فيها عدوانيّة إسرائيل  وتنكرها لقرارات الأمم المتّحدة بشأن القضيّة الفلسطينيّة. (استخدام إسرائيل لطائرات الميراج على خط وقف إطلاق النّار بين إسرائيل وسوريا في63. 8. 20، التّنكر لحق الشّعب الفلسطيني  في العودة “ليبق اللاجئون حيث هم….. فنحن لا نريد إدخال حصان طروادة إلى بلادنا” تصريح ليفي اشكول في 64. 7. 3. ) وحذّرت من أخطار تحويل مياه الأردن وأيدت حقوق الشّعب الفلسطيني وتنظيماته وكفاحه. وأكدت مؤتمرات القمّة الّتي التأمت في الإسكندرية في نفس العام والدّار البيضاء في العام 1965 على ضرورة توحيد الجهود العربيّة، خاصة بعد ارتفاع حدّة التّوتر بين الأقطار العربيّة والامبرياليّة وخاصّة الأمريكيّة، اثر زيارة الرّئيس السّوفييتي نيكيتا خروتشوف إلى مصر بمناسبة انتهاء المرحلة الأولى من السّد العالي. فقد تحوّلت تلك الزّيارة إلى تظاهرة عربيّة كبيرة اشترك فيها رؤساء البلدان العربيّة، الرّئيس جمال عبد النّاصر، عبد السّلام عارف رئيس جمهوريّة العراق، أحمد بن بيلّا رئيس جمهوريّة الجزائر، عبدا لله السّلال رئيس جمهوريّة اليمن. وقد زاد حدّة التّوتر الدّور الرّيادي لمصر في عقد مؤتمر القمّة الإفريقي في القاهرة في تمّوز  1964، وقد كانت قراراته إدانة للامبرياليّة وأسهمت هذه القرارات في تجنيد القوى الوطنيّة في النضال من أجل تصفية الامبرياليّة في القارة الإفريقية.  في العام ذاته ولد الكيان الفلسطيني ممثلاً في المجلس الوطني الفلسطيني وهذا أكد قضيّة فلسطين كقضيّة قوميّة لا كمشكلة إنسانية للاجئين. على خلفية كل ذلك ومن أجل تحقيق أهداف إسرائيل التوسّعيّة بدأ التنسيق الإسرائيلي الأمريكي لتزويد إسرائيل بالسّلاح وذلك بعد إرسال جونسون مبعوثاً خاصاً، هاريمان،  إلى إسرائيل في شباط 1964، في الوقت ذاته عقدت الولايات المتّحدة صفقات أسلحة مع العربيّة السّعوديّة والأردن، وقد أدركت إسرائيل أن ّهذه الصفقات غير موجّهة ضدّها، فقد كتبت صحيفة هآرتس 65. 12. 28 تطمئن المحافل الإسرائيلية “لاحظت المحافل الأمريكيّة أنّها غير قلقة من صفقة السّلاح الضّخمة بين بريطانيا والسّعوديّة، فعلى ناصر أن يقلق أكثر من إسرائيل من هذه الصّفقة. ” (إميل توما، السّياسة الأمريكيّة في الشّرق الأوسط) . في العام 1965 أتمّت مصر بنجاح مشروع الخمس سنوات الأول، وكان هذا إثباتا بأنّ التّنمية في مصر لا تتم إلا بخطّة وانّ الخطّة لا تتحقّق إلا في إطار الاشتراكيّة.  وحاولت الولايات المتّحدة خنق مصر اقتصاديّاً ، فبعد منع تصدير القمح لها قامت بمحاربة مصر في أسواق العالم  وموارد التّمويل لكي لا تحصل على التّسهيلات والقروض أو المساعدات من كل دول الغرب. ونجحت مصر في تخطّي الصّعاب وشراء القمح والحصول على المساعدات والاستثمارات وأعلن عبد النّاصر أنّ أمريكا هي زعيمة الثّورة المضادّة في العالم ولكنها لن تستطيع أن تثني مصر عن طريقها “وإذا لم يرض الأمريكيون فليشربوا من  البحر وإذا لم يكفهم البحر الأبيض فليشربوا من البحر الأحمر”(محمد عودة، الوعي المفقود)  استمرت الولايات المتّحدة في نهجها استخدام الأنظمة الرّجعيّة العربيّة لضرب الأنظمة التّقدميّة، فقد بدأ الملك فيصل، ملك المملكة العربيّة السّعوديّة ً، بدعوة لعقد مؤتمر ذروة إسلامي لمقاومة التّيارات “الإلحادية العمّاليّة ” ومجابهة “التّيارات الهدّامة”، وقد أكّدت الصّحيفة الفرنسيّة”لتربيون”في 65. 12. 4  “أنّ واشنطن كلّفت فيصلاً وشاه إيران بالقيام بمهمة تشكيل الحلف الإسلامي وهو بطبيعة الحال محاولة للرد على الحركة القوميّة العربيّة الّتي تتزعمها القاهرة”. ورفضت مصر هذه الّدعوة المشبوهة وعرّاها الرّئيس جمال عبد النّاصر في خطابه بمناسبة الذّكرى الثّامنة للوحدة بين مصر وسوريا. إن الولايات المتّحدة رغم عدم تنازلها عن فكرة استخدام الأنظمة الرّجعيّة لضرب الأنظمة التّقدميّة لكنها عرفت أنّ القوّة الجوهريّة لتحقيق أهدافها يجب أن تكون قوّة إسرائيل الضاربة.  وبرز  ذلك في الصّحافة الإسرائيلية سنة قبل حرب حزيران 1967، فقد كتبت صحيفة معاريف اعتماداً على نيويورك تايمز “على الولايات المتّحدة أن تؤيّد تلك الأقطار الّتي تستطيع ويجب أن تشترك في المسؤوليّة العالمية من أجل صيانة السّلام……. هذه الكلمات _كتب مراسل نيويورك تايمز _ أثارت الشّعور في إسرائيل أنّ هذا التّقدير ينطبق عليها “.   في العام 1966 سقط الجناح اليميني المعادي لمصر في حزب البعث الحاكم في سوريّا وتولّى جناح يساري تقدّمي مقاليد الحكم في سوريا تخلّى عن سياسة معاداة مصر. وقد تطوّرت العلاقات بين البلدين، خاصّة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها سليم حاطوم الّذي فرّ إلى الأردن بعد فشل محاولته الانقلابيّة وهذا يدل على الماهيّة الرّجعيّة لهذه المحاولة، كذلك بعد استيلاء الحكومة السّوريّة على ممتلكات شركة النّفط الأمريكيّة بعد رفض الشّركة زيادة عائدات سوريا لقاء مرور أنبوب النّفط _تابلاين_في أراضيها. ووقّع البلدان على اتّفاق دفاع وتنسيق عسكري في 4 تشرين الثّاني 1966، ونصّ الاتّفاق على اعتبار أي عدوان ضد أي من الدّولتين عدواناً على الدّولة الأخرى.  وهذا الاتّفاق يعني إقامة جبهة عربيّة معاديّة للامبرياليّة والرّجعيّة وصديقة للاتّحاد السّوفييتي وسائر الأقطار الاشتراكيّة. ورغم وقوف الأردن في المعسكر الموالي للغرب، قامت إسرائيل شرطي الامبرياليّة في 13 تشرين الثّاني 1966 بالهجوم على قرية السّموع الأردنيّة الّذي شاركت فيه وحدات المشاة والطّائرات والمدرّعات، وكان الهدف من هذا العدوان ليس النّظام الهاشمي الموالي للامبرياليّة الأمريكيّة ولكن لإرهاب القوى الوطنيّة الأردنيّة الّتي شدّدت نضالها ضدّ الطّغمة المالكة. وقد ظهرت ذلك في تهديدات لاحقة ليغئال ألون”على سكّان الضّفة الغربيّة أن يعرفوا قبل أن يتورّطوا
بمغامرة جديدة، أنّ الخيار ليس بين عبد النّاصر (أي قيام نظام وطني)أو حسين، بل هناك بديل آخر(أي الاحتلال الإسرائيلي).  في كانون الثّاني 1967 اشتدّ التّوتر بين سوريا وإسرائيل وزادت حوادث إطلاق النّار، وقد أبرزت هذه الحوادث وكأنها على خلفية الخلافات الزّراعيّة الموسميّة بين المزارعين الإسرائيليين والسّوريّين، ولكنّها في الواقع كانت رد فعل على صراع النّفط بين سوريا وشركة النفط الأنجلو أمريكيّة الاحتكاريّة. في هذه الأجواء تسارع التّنسيق العسكري الأمريكي الإسرائيلي، وزاد الدّعم الأمريكي الذي سار في طريقين :رسمي علني وقد تمثّل في الوعد الأمريكي الّذي اتّخذ في مجلس الأمن القومي الأمريكي بأن تضمن الولايات المتّحدة لإسرائيل تفوّقاً في السّلاح على كل الجيوش العربيّة، والتّدخل العسكري المباشر إذا كان هناك ما يوحي بوجود انتصار مصري، كذلك تضمن لها في حالة انتصارها أن لا يصدر قرار من الأمم المتّحدة يفرض عليها الانسحاب من أراض تكون قد احتلّتها. أمّا الطّريق الثّاني فقد كان سرّياً وعسكريّاً بالدّرجة الأولى وتولّت مسؤوليّته وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة والّتي تكفّلت بتقديم المعلومات عن أوضاع القوّات المصريّة ونقل الأسلحة والذّخائر لإسرائيل، وتجنيد متطوّعين للحرب مع إسرائيل خصوصاً من جنوب أفريقيا وروديسيا.    خطّطت اسرائيل وعلى خلفيّة هذا الدّعم المطلق، توتير الوضع على الحدود السّوريّة، فقد استخدمت حادثة حدود عاديّة وحوّلتها إلى هجوم جوّي عنيف على سوريا وذلك في 7 نيسان 1967. واستمرّ القادة الإسرائيليون في عنجهيّتهم العدوانيّة الاستفزازيّة، فأعلن رابين أنّ هذا العمل العسكري لن يكون الأخير ضد سوريا لأنّ سوريا لن تتعلّم أي درس من عمل واحد. كذلك استفزاز مصر، حين يتحدث ميخائيل بار زوهر عن عدم جدوى معاهدة الدّفاع المشترك بين مصر وسوريا”عشرات من الطّائرات الإسرائيلية غطّت جو سوريا وأسقطت ست طائرات ميغ…… ومع ذلك الجيش المصري لم يتحرّك”. ولم تكن خطوة مصر في إرسال قوّات عسكريّة إلى سيناء إلا إجراء دفاعيّاً بموجب المعاهدة المصريّة السّوريّة قصد بها تخفيف الضّغط على سوريا. وكانت خطوات مصر المقبلة، طلب انسحاب القوّات الدّوليّة من الحدود المصريّة الإسرائيلية ومن شرم الشّيخ وإغلاق
مضائق تيران في هذا السّياق أيضاّ. ولم تكن هذه الخطوات المبرّر لعدوان حزيران كما حاول ويحاول  أعداء  عبد النّاصر تحميله المسؤوليّة عن اندلاع الحرب. فالولايات المتّحدة هي التي أعطت الضّوء الأخضر لإسرائيل ببدء الهجوم حين تأكّدت من إمكانية النّصر السّريع لها. ويبرز ذلك في تقرير نشرته مجلّة لايف الأمريكيّة “أنّ الرّئيس الأمريكي طلب تقريراً عن توازن القوى في المنطقة وجاءه رد ويلر رئيس مجلس الأركان الأمريكي أنّ الإسرائيليين قادرون على الانتصار خلال ثلاثة أو أربعة أيّام…. ولكنّه لم يقتنع فطلب إعادة الّتقييم من رئيس مجلس الأركان ورئيس دائرة الاستخبارات ومرّة أخرى جاءه الرّد نفسه”(إميل توما، نفس المصدر) . وكانت  حرب حزيران 1967 هزيمة ساحقة  والمسئول الأوّل عنها القيادة العسكريّة لأنّها علمت بالموعد المحدّد الّذي حدّده العدو بالضّبط للهجوم والإستراتيجية الّتي وضعها، فقد جمع عبد النّاصر القيادة العسكريّة قبل الهجوم بأيّام وأنبأهم بالمعلومات الّتي وصلته من مصادر موثوقة  وأنّ الهجوم سوف يبدأ صباح 5 حزيران وبهجوم خاطف للطّيران، وعلى هذه القوّات استيعاب هذا الهجوم ثمّ الرّد عليه.

إن هذه الحرب كانت حرباً إسرائيلية أمريكيّة والخطّة وضعت بتعاون تام بين المؤسسة العسكريّة الإسرائيلية والبنتاجون، وأنّها عرضت على جونسون وصدّق عليها وباركها وسمّيت (أبيض وأحمر)ردّاً على خطبة عبد النّاصر الشّهيرة حول (ماء البحر). وحين أعلن عبد النّاصر التّنحي فاض الفرح وعمّ كل الدّوائر في واشنطن، لأنّ الهدف الحقيقي من هذا العدوان كان القضاء على النظامين التّقدميّين في مصر وسوريا، وهذا ما فشلت فيه اسرائيل والولايات المتّحدة رغم النّصر العسكري السّاحق. لقد كان للاتحاد السّوفييتي والدّول الاشتراكيّة دور هام في إفشال الخطط الامبرياليّة للقضاء على الأنظمة التّقدميّة في العالم العربي، إذ كان لها الدّور الأساس في يومي 9و10 حزيران لوقف الاحتلال الإسرائيلي ، في حين عارضت الولايات المتّحدة المبادرات السّوفييتيّة في مجلس الأمن لاتّخاذ قرارات بوقف أطلاق النّار وذلك لتمكين اسرائيل من إنهاء عمليّاتها  الحربيّة. وعقدت الأحزاب الشّيوعيّة والحكومات في الاتّحاد السّوفييتي وبلغاريا وألمانيا الدّيمقراطيّة وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا اجتماعاً أصدروا في نهايته بياناً في 9 حزيران “إذا لم توقف اسرائيل عدوانها ولم تسحب قوّاتها إلى ما وراء خطوط الهدنة فان الدّول الاشتراكيّة الموقّعة على هذا البيان ستعمل كل ما تتطلّبه مساعدة شعوب البلدان العربيّة في صد المعتدي بصورة حاسمة والذّود عن حقوقها المشروعة وإخماد بؤرة الحرب في الشّرق الأوسط”. وحسم الأمر في 10 حزيران وكان للتّحذير السّوفييتي فعله وتوقّفت العمليّات العسكريّة الإسرائيلية.  لقد استوعب الشّعب المصري بحسّه الوطني أهداف المؤامرة فهبّ بملايينه في التّاسع والعاشر من حزيران رافضاً تنحي عبد النّاصر، لأنّ ذلك تحقيق لأهداف اسرائيل والولايات المتّحدة. صحيح أنّ مصر هزمت عسكريّاً في سيناء لكن بقيت مصر الثّوريّة وخرجت لترد على الهزيمة وتحتويها مجرّد معركة وليست نهاية عصر. وكما قال معلّق عالمي عن هذه الجماهير”أقامت بأجسادها السّدّ المنيع الّذي حال دون بدء العصر الأمريكي في الشّرق الأوسط، وكانت صدمة قاسمة لجونسون ورجله ديّان”. واستأنفت مصر المسيرة بدعم الجماهير ونجح عبد النّاصر في إعادة بناء القوّات المسلّحة وصفّيت البرجوازيّة العسكريّة الّتي كانت أهم أسباب الهزيمة ووضع عبد النّاصر إستراتيجية “ما أخذ بالقوّة لا يستردّ إلا بالقوّة”، واستردّت القوّات المسلّحة تسليحها فحصل على بديل لكل الأسلحة الّتي فقدت من الاتحاد السّوفييتي وعمّقت الاستفادة من العلم والفن العسكري السّوفييتي، واتّخذ قراراً حاسماً وهو تجنيد الجامعيين وذوي المؤهلات جنوداً في القوّات المسلّحة. وبدأت حرب الاستنزاف واشتدّت وزعزعت أسطورة التّفوق الإسرائيلي وتساقطت الطّائرات متتالية،  وبدأت مصر تحصل على أحدث الأسلحة وأهمها الصّواريخ. لقد أعدّ عبد النّاصر مصر للحرب المقبلة، لكنّه سقط شهيداً من أجل القضيّة الفلسطينيّة الّتي كانت قضيّته منذ حصار الفالوجة حتّى مذابح أيلول.

 

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*