ما بعد السَّفَر بَرْلِك – د. خالد تركي حيفا

ولِد يوسف من جديد، حين عاد إلى بلدته، والتقى بأخيه سمعان، الفراري، بعد أن كانا مفقودَين، هذا عسكريٌّ مُجبرٌ ومُكرهٌ لا بطَل عند آل عثمان، بعيدًا عن مسقط رأسه، وذاك فراريٌّ نجح في الهرب من الخدمة، إلى الجبال والأحراش والجيوب الوعريَّة والكهوف الجبليَّة، في ضواحي بلدته..
عادا سالِمَين بصحَّتهما وغانِمَين بحياتهما الجديدة، التي كُتِبت لهما، وأصبح كلُّ واحد منهما مولودًا من جديد..
وُلِدا بعد ان فهِمَا أنَّ المطالِب لا تؤخذُ بالأمنيات “ولكن تؤخذُ الدُّنيا غِلابا”!
لقد صقلت يوسفَ خدمتُه في السَّفر برلك (التَّعبئة العامَّة)، عسكريًّا وتنظيميًّا وإداريًّا وفكريًّا، حين انفتح على عالم آخر، غير عالمه الصَّغير الذي كان يظنُّه أنَّه كلُّ الدُّنيا، أو حتى كان يعتقد أنَّ الحياة تبدأ من بلدته وتنتهي فيها، وأنَّ بلدته هي كلُّ الدُّنيا إن لم تكن أمَّها، حين لم يعرف غيرها وأهلها وساحاتها وحاراتها وازقَّتها، مناطق مراتعه..
كان كما السُّلحفاة التي لا تعرف بيتًا، غير بيتها الذي تحمله على ظهرها، على امتداد حياتها، فلا تنتزعه ولا تشلحه، فهو درعها الحامي والواقي وسدُّها المنيع، قوقعتها التي تلوذ اليها حين ينتابها خطر خارجيٌّ، أو حين تهرب من البرد والصَّقيع أو حين تخلد للرَّاحة والنَّوم.
وحين عاد أصبح اسدًا يتَّخِذُ من العرين، بيتًا، لإستراحة المقاتل!
لقد بلورَته غُربتُه وشحذَته وشذَّبته وشحنته بقوة وعزيمة وارادة صلبة، فقد عاشر شبابًا
من شعوبٍ أخرى، تعلَّم من حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم اشياء كان يجهلها في حياته اليوميَّة، وعاش حياةً عسكريَّةً رتيبةً، “عاش على القِلَّة”، حياةً قاسيةً ومجحِفةً، مع شباب من بلاد مختلفة، عربيَّة وأعجميَّة، حيث كانوا سويَّة جسمًا واحدًا في السَّرَّاء والضَّرَّاء، في الشِّدَّة والمسرَّة، في الضِّيق والبَحبوحة، بحيث اعتمد اسلوبًا في بلاد آل عثمان القسريَّة أنَّ ما لهُم له وما له لهُم وما عليهم عليه وما عليه عليهم، في وحدة واحدة، يتقاسمون حُلوَ الحياة ومرَّها، شظَفها وحرمانها، شغفها وليونتها ورغدها، تعاستها وسعادتها، لقد تقاسم معهم الآلام والآمال والأحلام والعُسر واليُسر، المعاناة والمقاساة وقد تقاسموا ايضًا المراهقة، عاشوا معًا وكأنَّ الواحد منهم من بعضِ بعضهم، ويجوز انَّ هذا العيش المشترك، وحَمْلَ الواحدِ منهم همَّ وغمَّ الآخر، حبوره وسروره، هو الذي كتَب لجميعهم في الكتيبة الأمن والسَّلام والعودة لكلِّ واحد منهم إلى دياره، ليكون فيها ديَّارًا آمنًا بين عِزوته..
كما شدَّت عودةُ يوسف من العسكريَّة عزيمةَ أخيه سمعان، الفراري، العائد من الجبال حرًّا طليقًا، بعد أن اختبأ هناك مدَّة سنتين، حتَّى انتهاء الحرب الكونيَّة الأولى بانتصار الحلفاء، المُحتلِّين الجدد، وسقوط العثمانيِّين، واصبح الواحد منهما يُكمِّل الآخر، ووجدا حالهما في تفكيرٍ واحدٍ وجسدٍ واحدٍ، مُتكاملَيْن، وكأنَّهما كانا سويَّةً طيلة هذه الفترة، التقيا في العزم والمجد والإصرار، والشَّرف..
لقد اصبح كلٌّ منهما اكثر فذلكةً، وحِنكةً، وحِكمةً، ومفهوميَّةً وتضحيةً، يعرف من أين تؤكَل الكتِف، وكيف ينهل من رأس النَّبع مباشرةً وكيف يأخذ لقمته من بين فكَّي أيِّ مفترسٍ. أصبح قَبَضاي (كواتلي، كلمة تركيَّة) لجرأته وشجاعته وزْكِرت (كلمة تركيَّة) لشهامته ونخوته ورجولته وجدعنته، لا يظلُم احدًا ولا يُضيم جارًا، قريبًا أو بعيدًا، ولا حتَّى سابع جار، وكان لا ينام الليل إذا بات جاره جائعًا، ينشُر العدل والسَّلام والمحبَّة ويقف الى جانب المظلومين والى إعطاء أصحاب الحقِّ، حقَّهم دون زيادة أو نقصان، كما جاء في الحديث النَّبويِّ الشَّريف..
كان الهاربون، من الفراري، يزورون اهلهم خفيةً، تحت جُنح الظَّلام، وكان سمعان منهم، يلبِسون عباءاتهم وكوفيَّاتهم السَّوداء، ويسلِبون الليلَ لونَه وعتمتَه ويلتحفون ظُلمته ويتحدُّون الخطر، فينزِلون البلدة ليُعينوا أهلهم في الحراثة الأولى بعد المطر الأوَّل لتطهير الأرض وتعزيلها وعزقها، والحراثة الثَّانية لزرعها وبذر مع قدَّره العاطي الكريم لهم من بقوليَّات أو قمح بعد المطر الثَّاني، حيث كانوا يزرعون بذور القمح والعدس والحمُّص والفول وغيره من الحبوب، كذلك كانوا يزرعون الورقيَّات (الخبَّازيَّات) كالسَّبانخ والملوخيَّة وغيرها من الخضراوات، ومنهم من كان يزرع التَّبغ، كلُّ فلاح بما يرغب وما يشتهي وما يحتاج وكان الفلاحون يتبعون طريقة المقايضة في البيع والشِّراء، حيث لم تكُن، عند غالبيَّتهم، الأوراق النَّقديَّة أو العملة المعدنيَّة، أو لم يكن لديهم مالاً ذا سيولة للشِّراء، بل كانوا يتبادلون منتجاتهم، منتوج ما بمنتوج آخر أو بمادَّة أخرى أو شيئ آخر يُعادله بالقيمة والثَّمن، تبادلوا حاجيَّاتهم فيما بينهم كالبيض والزَّيت والحليب والزَّيتون والحنطة والمواشي والدَّواجن، ومن كان ينفذ مخزونه من حاجيَّاته اليوميَّة او الموسميَّة كان يستدين من اقاربه او جيرانه او معارفه، حتَّى يُعيدها في الموسم القادم، وكانت روح التَّعاون شيمة اعتزاز وفخر للجميع..
وفي موسم الزَّيتون كانوا يحضرون الى البلدة ليُعينوا أهلهم في القِطاف ونقله على ظهور الدَّواب إلى المعاصر، ويعودون بعدها إلى الجبال قبل أن يحلَّ الغسق، دون أن يعلم غريب بمجيئهم، حتَّى لا يشي بهم احدٌ، حيث كانت بلدته لا تخلو من بعض المتعاونين وضعاف النُّفوس والمنتفعين،الذين لا عزَّة لهم ولا ضمير، لا شرف ولا ناموس، زد على ذلك انَّه كان العملاء، ايضًا، من الأغنياء والإقطاعيِّين ومن المخاتير الذين “يضربون بسيف السُّلطان” حتَّى يبقوا على ما هم عليه، قاعدين على اقفيَتهم، لا يرون أبعد من انوفهم وفَرجِهم وجيوبهم..
لقد كان العثمانيُّون، كذلك الذين اتوا من بعدهم من مُحتلِّين، يعيِّنون مخاتير في كلِّ قرية ومدينة، يوزِّعونهم على الأحياء، بحسب الحارات وبحسب اديان السُّكَّان، فهذا مختار للمسلمين وذاك للمسيحيِّين وآخر للدُّروز، وكانت رواتبهم من السُّلطة ومن السُّكَّان مقابل خدماتهم، ومقابل وظيفتهم ومعاشهم يخدمون الحاكم، بكلِّ ما تحمله كلمة “يخدمونه” من معنى، وكثيرًا ما كان الثُّوَّار يُصَفُّون حساباتهم مع المخاتير، بعد وشاية او دسيسة او مكيدة وهنا انا لا اعمِّم، لكنَّ هناك الكثير من كان على هذا النَّهج وتبنَّاه
لقد كانوا يقولون عن العسس والوُشاة، عملاء السُّلطة، انَّهم اولاد “شْلُكِّي”، أو ابن هالشْلُكِّي، والشلُكِّي هي كلمة تركيَّة تعني الزَّانية، ونابلس مشهورة بالحلويَّات الطَّيِّبة والزَّكيَّة وعندهم نوع حلوة يُسمَّى “قطايف شلُكَّات” وفي رواية الأسير باسم خندقجي (من مواليد مدينة نابلس، جبل النَّار، اسير في سجون الاحتلال منذ عام الفين واربعة، بثلاثة مؤبَّدات، مدى الحياة، وهو عضو اللجنة المركزيَّة لحزب الشَّعب الفلسطيني، الشُّيوعي) “نرجس العُزلة” (ص 122)، “كان الأغراب عن المدينة وضيوفها وزائريها يُفاجأون حين يسمعون مُضيفيهم يقولون لهم: سندعوكم على شْلكَّات في البلد..
: سأُطعمكم شلُكَّات
:ماذا؟
:يا عمِّي شلُكَّات يعني حلوى القطايف
حين عادا إلى البلدة، عادت حياة البيت إلى طبيعتها، وبدأت حركة الزِّيارات من أهل البلدة لهم نشِطة، بعد أن كانوا قد حسبوا الواحد منهما مفقودًا أو مقتولاً أو ضائعًا أو تائهًا أو أو هاربًا أو ضالاً في بلاد الحيِّ الواسعة، وبدأ العديد من أترابهما في البلدة الذين لم يخدموا في العسكريَّة من الفراري او “المعاقين” على انواعهم يعودونهما، شوقًا وتلهُّفًا لرؤيتهما ومجالسَتهما وحديثهما، وبدأ يقصُّ الأخَوان عليهم عن الحياة في بلاد آل عثمان وعن العيش في تحدٍّ دائم في الجبال ما بين “الانسان من آل عُثمان” وفي احراش الطَّبيعة مع الحيوان، ويسألهم يوسف عن حال الذين ذهبوا الى العسكريَّة ولم يرهم بعد، فمنهم من آبَ ومنهم من غابَ أو عاب ومنهم من بقي هناك، في بلاد خِدمتِه، حيث أنَّ بعضهم خدم في العراق واليمن وأقاليم سورية الشَّماليَّة وفي بلاد الأناضول، وما لفت انتباههما وشعرا به أنَّ بلاد الشَّام، بعد أن سقطت امبراطوريَّة الباب العالي، قُسِّمت الغنيمة العربيَّة ما بين دول الفرنجة، المُحتلِّين الجُدد، سورية ولبنان لفرنسا، فلسطين والأردن والعراق لبريطانيا، وأصبح من الصَّعب عليهما التَّنقُّل بين أقاليم الشَّام، بحرِّيَّة كما كانوا، بعد أن كانت بلادهم وحدة جغرافيَّة وقوميَّة وإداريَّة واحدة مُتكاملة، حيث كانت تُعَدُّ فلسطين الإقليم الجنوبي لبلاد الشَّام، منذ العهد الرُّومانيِّ أو حتَّى، كما يُقال، منذ أن كان التَّكوين و”البدء” لغاية العهد العثمانيِّ، الجزءَ الحيَّ والنَّابض لمنطقة لهلال الخصيب..
لقد عرفَ الأخَوان بعد ذلك، انَّ نجاح ثورة البلاشفة هو الذي كان قد فضَح مخطَّط تقسيم بادية الشَّام، وبدأت تجول في خاطر الواحد منهما، ما هو هدف الفصل، وما هو هدف التَّفريق والتَّفكيك، والتَّجزيئ والتَّقسيم وما هي مشيئتهم من اقتطاع لواء الإسكندرون، بدايةً، من الجسد العربيِّ المشرقيِّ، من الإقليم السُّوري، لصالح تركيَّا، وتبيَّن انَّ هذا هو جزء من مخطَّط لاقتطاع باقي الأقاليم من الوطن الأم، وتفتيته وشرذمته، لتكون لهم القوَّة والنُّفوذ والعِصمة على مشرق الوطن العربيِّ، كما حدث بعد ذلك لفلسطين، وتكون قوَّتهم في تفريقنا وتفتيتنا وقطع اوصالنا بسياسة “فرِّق تسُد”! حيث عملوا على تجزئة الوطن الكبير الى دول وأمصار وزرع بذور الكراهية بينها من الإقليميَّة الرَّخيصة والطَّائفية البغيضة والعنصريَّة اللئيمة وإثارة الفِتَن بين ابناء الشَّعب الواحد..
لقد ترك أخوه سمعان، الذي كان “فراري” ايَّام السَّفَر برلك، البلدة، بعد أن عاد إليها بعد سقوط الدَّولة العليَّة، وزوجته صديقة وابنه البكر داود الى المدينة في السَّنة الثَّانية من العِقد الثَّالث من القرن المنصرف، طلبًا للعمل، اذ كانت حياة المدينة اسهل عليه من حياة القرية، لقد هاجر اليها قسرًا وهروبًا من شظف العيش والعوز والفقر والفاقة، بعد سنوات عجاف عديدة ومتتالية، بحثًا عن مصدر رزقٍ، حيث وجد نفسه يعمل في الصِّيانة في ميناء المدينة تارةً وعاملاً في البلدية تارة أخرى، أو في أيِّ عمل آخر يُطلب منه أو يحتاجون خدماته، مثل نقل البضائع من العربات الشَّاحنة والمَركبات إلى السَّفينة أو من السَّفينة إلى المَركبات، أو يعمل في بناء بعض أرصفة المرفأ أو في ترميمها أو في طلاء القار الحار على جدران السُّفن الخارجيَّة، لتحميها من ملوحة مياه البحر ومن الصَّدأ..
لقد كانت حياة المدينة اسهل من حياة القرية، ففيها مركز حاكم اللواء، ودائرة الاشغال العامَّة، ومراكز للمواصلات والتِّجارة للتَّصدير والاستيراد والسَّفر والنَّقل، برِّيَّة وبحريَّة، ميناء بحري ومركز السِّكك الحديديَّة، واذا اردت مثلاً السَّفر من حيفا الى يافا فذلك يكون إمَّا عن طريق سكَّة الحديد أو عن طريق البحر او عن طريق اليابسة، جنين فطولكرم فقلقيلية فيافا، زد على ذلك انَّ المدينة ازدهرت بوجود مصانع تكرير النَّفط، ومصنع السَّجائر والتَّنك وشركة النُّور للكبريت ووازدهرت كذلك باعمال البحر (صيد السَّمك وشواطئ استجمام وسياحة)..
لقد اختلط مع غالبيَّة عمَّال الميناء، على اختلاف انتماءاتهم الإثنيَّة والقوميَّة والدِّينيَّة والمذهبيَّة، وعلى اختلاف العادات والتَّقاليد والمستوى الحضاريِّ، لكنَّ الغالبية السَّاحقة كانت من العرب واليهود، ويتحدَّثون فيما بينهم بالعربيَّة، وبدأ يسمع منهم، ما يشعره على جلده وما تحسُّ به نفسه، عن ظلم وقهر أصحاب رؤوس الأموال من مسؤولي الشَّركات والمقاولين من يهود وعرب، وعن مستوردي البضائع ومصدِّريها، حيث كان همُّهم ذاتَهم وربحَهم ومصلحتَهم ومن بعدهم الطُّوفان، لتَفنى الدُّنيا، وما جال في بال عمَّال الميناء كيف عليهم، أن يبيعوا، يوميًّا، قوَّة زنودهم وعرق جسمهم وطاقتهم وعضلاتهم وتعبهم ودمهم مقابل حفنة من المال لا تكاد تكفي كفاف يومه، فهل يستطيع أن يُعيل عائلته التي تنتظره، على أحرِّ من الجمر، ليُحضِر لها لُقمة العيش..
“كل من ع دينو الله يعينو”، “كل من ع قوميتو الله يكون بِمعِيْتو”، وقد جاء في الحديث الشَّريف “النَّاس سواسية كاسنان المشط وإنَّما يتفاضلون بالعافية..”، وجدهم “اخوة له في الإنسانيَّة”، وانَّ سيف الظَّالم فوق نحورهم جميعًا، لذلك فوحدتهم كقوَّة عاملة مهمَّة جدًّا ونانجعة ولها ثِقلها النِّقابي والتَّنظيمي، ومهمَّتها العمل المشترك والتَّنسيق المشترك، ما دام هناك مجالس عمَّال وفلاحين تُدير شؤون العمل في الدَّولة..
لقد كان العمل صعبًا ومرهِقًا ومضنيًا، إذ كان يعمل خمسة وعشرين يومًا في الشَّهر، إثنتا عشرة الى اربعة عشرة ساعةً يوميًّا، مقابل اربعة قروش في اليوم، بدون تأمين صحِّيٍّ أو تعويض عند اصابة عمل او طرد من العمل، فإن مات العامل ماتت عائلته معه جوعًا، وبقيت دون مُعيل، وما ان ينتهي يوم العمل حتَّى تكون روح العامل قد انتهت تعبًا وارهاقًا، يخلد من بعدها إلى الرَّاحة والنَّوم على أن يتهيَّأ إلى يوم عملٍ جديدٍ، مُتعبٍ ومُضنٍ، في الغد!
لقد تعاطف مع اليهود ومع غيرهم من الذين اتوا بلاده من اوروبا، من وراء البحار، هاربين من ظلم هتلر وناره وغازه وافرانه، وساعدهم بقدر استطاعته على العيش والبقاء كغيره من ابناء شعبه، اصحاب النَّخوة الأصيلة وعزَّة النَّفس الكريمة، ولم يرَ فيهم عدوًّا لدودًا، بل رأى في اليهود شعوبًا مختلفة تعتنق اليهوديَّة، كما ديانته، فهي أيضًا ديانة ابراهيميَّة، أو حتَّى لو كانوا ملحدين، أو لو كانوا ما شاءوا، اتوا وغيرهم بلاده اطنابًا، يجب عليه إحسان وفادتهم ومساعدتهم بقدر استطاعته، هذه هي اخلاقه..
والطَّنيب في قاموس العرب، هو الذي يحتمي بك من شرٍّ يُداهمه، ومن ظُلمٍ يكتنفه ويحيط به، واذا كان ذا سُمعة طيِّبة، يأويه، ويُقدِّم له الحماية ويسعى لحل مشكلته ان استطاع، ولكن اذا كان الطَّنيب شرِّيرًا ذا سُمعة سيِّئة يأويه ثلاثة ايَّام، “ماكل شارب نايم”، ثم يوصله المكان الذي يريده هذا الطَّنيب..
لكنَّ حدسه لم يسعفه ليعرفَ لاحقًا، أنَّ هذا الطَّنيب هو دخيل من ايتام واحفاد امِّ عامر!
حيث يُحكى أنَّ ضبعًا في البريَّة تعرَّض لعمليَّة قنصٍ فاشلة من مجموعة صيَّادين، فهرب الضَّبع منهم ولجأ إلى أعرابيٍّ كان مرتاحًا في خيمته، واعتبره الأعرابيُّ مستجيرًا به، وعليه حمايته ومساعدته والدِّفاع عنه أمام هؤلاء المعتدين، الذين غادروا المكان بعد ان اعلمهم انه في حمايته، فتركوا الضَّبع وشأنه، عند الأعرابيِّ، الذي قدَّم له المأكل والمشرب والمأوى، وحين خلد الأعرابيُّ إلى النَّوم، قام الضَّبع بالانقضاض على الأعرابيِّ وبقرَ بطنه وافترسه. وحين أتاه اقاربه وابناء قومه صباحًا وجدوه صريعًا “يسبحُ بدمه”، تبيَّنت لهم الحقيقة، وقال شاعرهم في هذه الحادثة:
ومَنْ يَصنَعُ المَعروفَ مَع غَيرِ أهلِهِ يُلاقي كَما لاقى مُجيرُ أُمِّ عامِرِ
أعَدَّ لَها لمَّا استجارَتْ بِبَيتِهِ أحاليبَ البانِ اللقاحِ الدوائرِ
وأسمَنَها حتَّى إذا ما تَمَكَّنَتْ فَرَتْهُ بانيابٍ لَها واظافِرِ
فَقُلْ لِذَوي المَعروفِ هذا جَزاءُ مَنْ يَجودُ بِمَعروفٍ على غَيرِ شاكِرِ
وطنيب آخر، كان من الحُمُر، الذين تعاونوا معه وتشاركوا مع رفاقه، وقد تعاون ورفاقه معهم ووجدوا فيهم سندًا ومعاونًا ومؤازِرًا واحيانًا معلِّمًا، وفي صفٍّ واحد ضدَّ المستغِلِّ الرَّابض على صدر العامل، حتَّى أنَّهم ساروا معًا في مسيرتهم لبناء وطنٍ واحدٍ يحميهم ويأويهم، فهُم في الهمِّ والغمِّ اسرة واحدة وقوَّة واحدة، في العمل على كنسِ الاستعمار البريطانيِّ، واستقلال البلاد والبدء في تأسيس دولةٍ علمانيَّة ترتكز على الحرِّيَّة والتَّقدُّم والدِّيمقراطيَّة والمساواة والعدالة الاجتماعيَّة..
وبدأ يسمع منهم عن انتصارات العمَّال والفلاحين في أوروبا الشَّرقيَّة، بعد أن ذاقوا الأمرَّين من طاغوت بلادهم، كما يذوقونه، هو ورفاقه واهله على جلودهم في المشرق العربيِّ، حين كان الأوروبيون في حال مزرية كوضعهم، عندما كانوا في هاتيك البلاد، على وضعهم، وبدأ يفكر بهؤلاء الحُمُر الذين عملوا المستحيل، وطوَّعوا المحال، وقلبوا ميزان القوى والقطب الواحد، وعرف أنَّ لا مستحيل أمام ارادة العمَّال وقوَّة الفلاحين، إن توحَّدوا! فكان شعارهم “يا عمَّال العالم اتَّحدوا” و”يا ايَّتها الشُّعوب المضطهدة اتَّحدي” حيث كان الحُمرُ في بلاد المسكوب، يناصرون المحتاجين، ويعاضدون الضُّعفاء في بلادهم وفي باقي انحاء المعمورة، ويقفون إلى جانب الفلاحين والعمَّال ويدافعون عن حقوقهم في ايِّ بلد كان، وكيف يمكن للفلاح او العامل أو الفقير المغلوب على أمره أن ينتصر ويُحقِّق إرادته، ويفوز بما يصبو إليه، وأن تكون السُّلطة في يده، كيف تتحوَّل الإدارة إلى ارادة بين أيديهم تحقِّق ما أرادوا، بعد أن كانت في إمرةِ الأغنياء والاقطاعيين لقد صنع الحُمُر المستحيل السَّابع، فوضع سمعان امامه هدفًا واحدًا، التَّفتيش عنهم في البلاد والتَّواصل معهم خارجها، ليستطيع تحويل المُحال إلى مستطاع والخوف إلى أمان وطمأنينة..
كان على قناعة أنَّه لو كان الأنبياء احياءً وعاشوا في عصر البلشفيَّة لاعتنقوها وساروا على خُطاها، وكانوا هم هم في قيادة الحركة ومن ركائزها، وتفانوا في قيادتها وعملوا على تحقيق اهدافها السَّامية، حيث انَّهم قاموا للخير والعدل والسَّلام وبشَّروا بالمحبَّة وبخلاص البشريَّة من الغُبن والظُّلم والاستغلال، ولم يرَ ايَّ تناقض بين طريقه الأحمر في النِّضال وبين نهج الأنبياء والأتقياء والصَّدِّيقين في نشر كلمتهم والعمل على تنفيذها وتحقيقها..
لقد حاول اعداءهم طعنهم، بتهمَّة الكُفر، حاولوا تكفيرهم، ونعتهم بالملحدين، حتَّى يُسهِّل عليهم محاربتهم باسم الدِّين، ليبتعد الشَّعب عنهم ويعتبرهم “بُعبُع”! لم يهاجموا الدِّين بل دافعوا عنه وابرزوا مكر الاستعمار وأصحاب رؤوس المال، إذ بيَّنوا كيف تعَمَّد الاستعمار وتمادى في استغلال الدِّين في اضطهاده للفقراء والمحتاجين والكادحين وبيَّنوا كيف يقف الاستعمار ضدَّ الذين يقفون امام اطماعه ويُشكِّلون عقبةً امام استغلاله، وضدَّ يعملون كلَّ ما في استطاعتهم لنصرة الغلابى لتحرير الارض وتحريرهم من العبوديَّة والقهر..
يقول ابن رشد: إنَّ التِّجارة بالأديان هي التِّجارة الرَّائجة في المجتمعات التي ينتشرُ فيها الجهل، وأنَّ أكبر عدوٍّ للإسلام هو جاهلٌ يُكفِّر النَّاس، وإذا أردْت أن تتحكَّم بجاهل فعليك أن تغلِّف كلَّ باطلٍ بغلاف دينيٍّ..
كان سمعان يُردِّد دائمًا أنَّ البلاشفة جيِّدون للفلاحين والعمَّال ولعامة الشَّعب، ولو كانوا في ديارنا لفتحوا لنا ولذُرِّيتنا المدارس والجامعات والمشافي ودور الصِّحَّة والثَّقافة والمأوى والمسكن مجَّانًا، دون مقابل، فهُم الخير في البشريَّة وهم الأخيار في الانسانيَّة.. كان يعرف أنَّ السُّلطة والحُكم، منذ بلوغه سنَّ الرُّشد، هو بيد القويِّ والباطش، الإقطاعيِّ والطَّاغي والغنيِّ والعادي والعاتي، وأنَّ النُّفوذ لأهل النُّفوذ، وأنَّ السَّطوة لأهل السَّطوة وهم اليد العُليا، فكيف للدُّنيا أن تُصبحَ العُليا، و”هم الفاعلون التَّاركون فينا” وأن نكون كما يشاؤون، “ونحن بأمرك يا سيِّدنا”..
فكيف يمكنه أن يتواصل مع الحُمُر، وان يستفيدَ من خبرتهم وكيف يُمكنه أن يُصبح واحدًا منهم، وهل يُمكنه أن يبني شيئًا مثل هذا النَّموذج الرَّائع في بلاده، ليكون نقطة انطلاقهِ، وكيف يبدأ فكرته ومن أين يباشر عمله، وكيف يُمكن لهذه النُّواة أن تكون، وكيف يشرح لأخوَيه، ولباقي شباب بلدته بما يدور في رأسه، وهل يبدأ من أفراد عائلته ليَضمن سرِّيَّة الحركة، بدايةً، النُّواة التي يمكن أن ينطلق منها، وهل هناك من هو على استعداد لدفع ثمن هذه الحركة، إن كُشِفَت، وهل أجياله في بلدته على وعيٍ كافٍ وإدراكٍ ناضجٍ وعلى بيِّنة واضحة لطريقِهِ الأحمر وطريقته الجديدة البُلشفيَّة، في بصيرته ورؤيته ورؤاه التي أدركها أهل المسكوب، ام أنَّ عليه أن يبدأ أوَّلاً من المدينة وبالتَّحديد من عمَّال المرسى أو من عمَّال البلديّة!
اسئلة صعبة طغَت على فكره دون اجوبة!

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*