بَسْ مَعْـنا ومِشْ علينا – د.حاتم عيد خوري

حرصتُ في الاسبوع الماضي على حضور جلسة “البرلمان”، علمًا بأني كثيرا ما اتغيّب عن تلك اللقاءات الاسبوعية المسائية، التي تعقدها مجموعةٌ من الاصدقاء المتقاعدين، في موقع متّفق عليه في حيفا، كاد يكون ثابتا، لولا تنقله احيانا ما بين قمة الكرمل وجادته “النواسية” (كما يسميها البعض مداعبة) وأقدامِه المدلاة في بحرٍ يعكف أبدًا على غسلها، على امتداد متنزَّهٍ بحري جميل. غياباتي المتكررة عن “جلسات البرلمان” كادت تحرمني من عضويتي، لولا تلطّف زملائي وسِعة صدرهم وحسن تفهمهم لالتزاماتي الاجتماعية التطوعية الكثيرة التي جعلت مني “متقاعدا لا قاعدا”.. غير أن تسامح اصدقائي مع غياباتي المتكررة لم يعفني من مساءلتهم لي عمّا تضمّنه مقالي الاخير بعنوان “هل سيسمع سمعان؟”، سيما ما يتعلق منه بقضية توحيد موعد الاحتفال بكلٍ من عيدَي الميلاد والفصح في الكنيسة الارثوذكسية والكاثوليكية.. قال لي احدهم: “لقد كتبتَ عن هذا الإشكال في السنة الماضية وما قبلها. إذن لماذا تعيد الكرَّة؟”. فقلتُ له ضاحكا إن سؤاله يذكّرني بقصة كامل المُحسِن.
يقول الراوي إن كامل المحسن كان عكس اسمه تمامًا، فلا الكمال من اوصافه ولا الإحسان من أفعاله. فلقد عمل في دائرة الضرائب نحو ثلاثة عقود ونيّف، وكان ضربة على راس كل من تعامل معه، بما في ذلك زوجته التي ذاقت الامرّين من بخله وتقطيره، مستغلا كونها ربّة منزل متفرغة لرعاية أولادها. قال كامل لصديقه ماهر: “يا اخي، هاي مرتي مجنِّنتْني. كل يوم صباحًا بتطلب مني مئة شيكل”. فقال له ماهر مستغربا: ” ولو!! شو مرتك بتساوي بالمصاري؟!”. فاجابه كامل: “والله ما بعرف، لاني ما اعطيتها ولا مرة”.
بعد أن استردَّ اعضاءُ “البرلمان” انفاسهم من موجة الضحك التي اعترتهم، قال لي ايوب وقد بدت عليه علامات الانفعال الشديد: “يعني هل تظن أن تكرار طلب توحيد مواعيد احتفالات المسيحيين باعيادهم، سيجعل القيادات الكنسية تغيّر موقفها المتعنّت إلى حدّ التزمّت، والذي جعل من احتفالات المسيحيين المنفصلة باعيادهم، مهزلة فعلًا. فما إن يقوم “مسيح الكاثوليك ” من القبر بعد اسبوعِ آلامٍ مُضْنٍ، وإذ “بمسيح الارثوذكس” يُقبض عليه ليُقاد على درب الآلام، فالصلب والايداع في القبر.. الخ، فهل هذا معقول يا بشر؟! وهل نحن نتحدث عن السيد المسيح الواحد ام عن مسيحَين مختلفين؟! “. سكت ايوب لحظة ليستردّ انفاسه، ثم تابع حديثه قائلا: “بعد ان افشلت الارادةُ الشعبية الواعية، في القسم الثاني من القرن الماضي، معارضةَ القيادات الكنسية للزواج المختلط بين ابناء الكنائس المختلفة، فهل من المعقول ايضًا، ان لا تعيّد في نفس الموعد، الاسرةُ الكاثوليكية مع ابنتها التي تزوجت ارثوذكسيا، و/او الاسرة الارثوذكسية مع ابنتها التي تزوجت كاثوليكيا أعني روم كاثوليك أم موارنة أم لاتين الخ؟”..
أقلقتني شدةُ انفعال ايوب، فوجدتني مضطرا لان ألعب مرة اخرى دورَ المُهدِّئ، فمازحتُه قائلا له: “وين صبرك يا أيوب!”. فبدت على محياه ابتسامةٌ شجّعتْني على متابعة حديثي، فقلتُ له: “لو كنتُ متفائلا، يا عزيزي، بتجاوب القيادات الكنسية، لكان تفاؤلي كتفاؤل رشيد ابو قنينة بدخول الجنة”. كان رشيد مدمنا على شرب الكحول، يتنقل بين الحانات(البارات)، “مُعتصِرًا” القنينة تلو الاخرى، وكأنه المقصود في “الخمريات” عندما قال ابو نواس:
“ما زلتُ استلّ روح الدَّنِّ في لطف واستقي دمه من جوف مجروح
حتى انثيتُ ولي روحان في جسدي والدَّنُّ منطرحٌ جسما بلا روح”،
فاكتسب رشيد بجدارةٍ واستحقاق لقب “ابو قنينة” وبات معرّفًا به. سُئل رشيد مرة: “إن لم تُقلِع يا رشيد عن عادتك السيئة هذه، فكيف ستدخل الجنة؟”. فاجاب وهو يترنح ثملا: “بسيطة. اقف امام باب الجنة، ثم أفتحه واغلقه تباعًا، مما سيغيظ رضوان الحارس، فينهرني قائلا لي: “خلِّصْنا يا رشيد، إمّا بتفوت وإمّا بتطلع” فافوتُ بسرعة وبدون تردد..”.
استغربَ ايوب ردّي، فسارع الى كبح ابتسامة بدت على وجهه، ليقول لي متحدّيا: “إذا كنتَ غير متفائل بتجاوب القيادات الكنسية، إذن لماذا تكتب؟”. اجبتُه على الفور وانا ابتسم مرة اخرى: “لأني لا استطيع أن أنسى نادرة “خوري الضيعة والعمّ بو ملحم ” التي كنتُ قد سمعتُها من استاذ جامعيّ لبنانيّ كنتُ قد التقيتُه على هامش مؤتمر علميّ عُقد في فيينا في اواخر ثمانينات القرن الماضي. وها أنا أرويها كما سمعتُها منه، وعلى ذمته:
حاول خوري الضيعة أن يحتكر السلطة ليس فقط في الامور الدينية الروحية إنما ايضًا في الامور الدنيوية ولا سيّما المالية منها. دبّ خلافٌ بينه وبين أبناء الضيعة ، فاشتكوه الى المطران، لكن الاخير سكت عن الامر ربما لأن الخوري يعمل بإيعاز منه او لأنه يقلده عملًا بمقولة “الناس على دين ملوكهم”. تازّم الوضعُ جدًّا، فاجتمع ابناءُ الرعية ليلًا وقرروا نكايةً بالخوري، أن يُشهروا إسلامَهم… قالوا “الصباح رباح” وخلدوا للنوم بارتياح. لكنهم استفاقوا عند الفجر على صوت أذانٍ رخيم غير مألوف في تلك الضيعة: “حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح..الله اكبر..”، فهبّوا راكضين نحو مصدر الصوت المنبعث من سطح كنيسة الضيعة. ولَكَم كانت دهشتهم كبيرة، عندما تبيّن لهم أن المؤذّن المحترم لم يكن سوى “ابونا” الخوري وقد اعتمرَ عِمامةً كبيرة كاد رأسه ينوء بثقلها.. حدجهم الخوري بنظرة تحدٍّ، قائلًا لهم: “وين ما رُحْتوا، بدّي أظلّ قُدّامْكم”. لهجة التحدّي هذه، استفزَّت عيسى المعروف بلقب “شيخ شباب الضيعة” فاندفع غاضبًا نحو الخوري وكانه يريد أن يرمي به من فوق سطح الكنيسة، لكن العمّ ابا ملحم المعروف برزانته وحكمته وصدقه واستقامته ودالته على الشباب، وقف في وجه عيسى والشباب المتحمّسين الآخَرين، ثم توجّه الى الخوري قائلا له بإصرار وهو يشدّد على كل كلمة بلهجة لا تحتمل التأويل: “نعم يا محترم، وكمان إحْنا بدْنا ايّاكْ تكون قُدّامْنا، بَسْ مَعْنا ومِشْ علينا”.

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*