سقوط حيفا! – د. خالد تركي

في الثَّاني والعشرين من شهر نيسان من عام النَّكبة، التي ما زال شعبنا يعيشها، وبينما كان عشرات الآلاف من سكَّان مدينة حيفا العرب، التي كانت تعدُّ نحو ثمانين الف مواطنٍ عربيٍّ،أو يزيد، تهرع إلى بوَّابة مينائها (باب الفرج) للخلاص من الموت المؤكَّد الذي كتبته لهم عصابات صهيون “الهجناة”،وحلفاؤها في المنطقة والعالم، آثرت ثُلَّة من الأبطال النُّجباء الواعين من شباب عصبة التَّحرُّر الوطني في فلسطين(الشُّيوعي)، أن تحمل همَّ النَّاس أهل المدينة وقضائها وتحمل طلبات “الشَّارع” وتُجسَّ نبضه وتضع روحها ودمها على أكفِّها فداءً للوطن وعزَّته وتضحية لبقاء مواطنيه، وأن تدعو الأهل إلى عدم الرَّحيل، وأن تحمي من بقي في حيفا وتحُثُّهم على الشَّجاعة والثُّبوت في المكان والثَّبات على الموقف والاستقرار..
كذلك هرع سكَّان القرى من قضاء حيفا، الى الميناء، لتجد هي ايضًا ملاذها في الشَّتات، نتيجة المذابح التي مرَّت بها هذه القرى وقرى الجوار، الحوَّاسة، بلد الشِّيخ، إجزم، ام الزِّينات، عين غزال، كفر لام، طيرة اللوز، الطَّنطورة، الياجور، ام الشُّوف، ام العمد، عين حوض، جبع، صبَّارين وخربة الدَّامون..
كان عدد اليهود في حيفا، عام النَّكبة مساوٍ لعدد العرب..
لم يبقَ في مدينة حيفا من المواطنين العرب، سوى قلَّة قليلة، ما بين الف وخمسمائة إلى ثلاثة آلاف مواطن عربيٍّ،بعد النَّكبة،اذ اختلفت الإحصائيَّات حول العدد..
لم يبقَ في حيفا من العرب سوى اربعة بالمائة من السُّكَّان العرب، ممَّا يدلُّ على كبر المؤامرة، وشراسة المُحتلِّ وبطشه في اتِّباع سياسة الإرهاب المنهجيِّ المدروسة من التَّرهيب والتَّعذيب والتَّخويف والتَّنكيل..
لقد طالبت العصبة من أهل البلاد الصُّمود والثَّبات وعدم ترك البلاد، بينما لم ترَ جماهير شعبنا دعوة الصُّمود هذه من الجيوش العربيَّة التي أتت البلاد “لنجدتها”، حيث كان من المفروض أن تحمي هذه الجيوش السُّكَّان العرب وتدعوهم إلى البقاء في البلد..
لكنَّ الجماهير سمعت من هذه الجيوش كلامًا آخر، دعوات الى ترك البلد وإخلاء المنازل، والتَّنازل عن المقاومة، ريثما “يُحرِّرونها”، هم!
يكتب الرَّفيق بولس فرح عضو عصبة التَّحرُّر الوطنيِّ في فلسطين، في كتابه “من العُثمانيَّة إلى الدَّولة العبريّة” (ص 194) يصف حال نزوح العرب من حيفا وهو في مكتبته الواقعة في شارع مار الياس رقم سبعة، ما يلي:
“كنتُ في حيفا عندما شدَّ النَّاس الرِّحال، وانطلقوا مولين الإدبار. كانت مكتبتي في منتصف المدينة، على مشارف ساحة الخمرة. وكان النَّازحون بالشَّاحنات المحمَّلة بأثاثهم يمرُّون قهرًا عبر ساحة الخمرة، لقد شاهدتُهم ينزحون بعشرات الشَّاحنات، بل بمئاتها..كان عدد سكَّان حيفا العرب ثمانين الفًا، فاصبح في صيف الف وتسعمائة وثمانية وأربعين لا يزيد عن الف وتسعمائة وخمسين ساكنًا موزَّعين على مختلف انحاء المدينة. كنَّا نرى يوميًّا أنَّ المدينة تخلو يومًا بعد يوم من السُّكَّان العرب والاشتباكات تزداد عنفًا، وتمَّت هزيمة المقاتلين العرب تحت ضربات العسكريَّة اليهوديَّة المنظَّمة. وعند رحيل الإنجليز عن البلاد بانتهاء حكمهم بموجب قرار الأمم المتَّحدة استلمت الهجاناة كلَّ أحياء المدينة التي كانت تخضع لجند الإنجليز”.
ويُتابع، على الصَّفحة التَّالية:
“وبينما كنتُ منحنيًا لإحكام قفل الباب أخذ الإنجليز بإطلاق النَّار على المارَّة وفي الهواء..فأطلقوا النَّار عليَّ ورأيت الرَّصاصة تدخل الحائط بجانبي، فركبتُ الباص إلى النَّاصرة، إلى بيت الوالدة” (“من العُثمانيَّة إلى الدَّولة العبريّة” ص 195).
“..وفي الأسبوع التَّالي لازمتُ فراشي مريضًا عندما زارني توفيق طوبي في النَّاصرة.  ونبَّهني إلى أنَّ اليهود يفتحون المخازن وينهبونها في سوق المدينة القديمة، وأنَّهم في يومين أو ثلاثة سيأتون على مكتبتي ويفرغون محتوياتها”(“من العُثمانيَّة إلى الدَّولة العبريّة” ص 196). وحين عاد إلى حيفا وجد مكتبته منهوبة “وخاصَّة المخزن الأرضي فوجدتُه منهوبًا وقاعًا صفصفًا”..
“كانوا يتواجدون على اسطح الدُّور المشرفة على ساحة الخمرة، وفي أغلب الأحيان كانوا يُطلِقون الرَّصاص بلا مُبرِّر فينشرون الرُّعب بين النَّاس..”، “كانت البيوت مفتوحة ومنهوبة ومهجورة..”، “فقد تدفَّقت على الوادي مجموعات من العسكر والمدنيِّين اليهود، ..هاجموا البيوت، وحاولوا طرد العرب منها، وكنَّا نسمع عويل النِّساء وبُكاء الأطفال وصراخ الرِّجال، والجُند تُحاول بالقوَّة طرد العائلة من بيتها أو من جزء منه، وإحلال جنديٍّ يهوديٍّ بدله”.
وجاء في مؤلَّفي الأوَّل “يوميَّات برهوم البُلشفي” ص 85، عن دفاع الرِّفاق عن أهالي حيفا بعد سقوطها ما يلي:
“تذكَّر برهوم عمل الشُّيوعيِّين العرب واليهود في حيفا لمنع النُّزوح أو لإعادة من نزح أو تحرير بيوت النَّازحين بعد عودتهم إلى حيفا، ففي حادثة يذكُرُها أنَّ الرِّفاق اليهود تلقُّوا خبرًا من طيِّبة الذِّكر بنينة فاينهاوز مفاده أنَّه هناك شِلَّة من الجيش تحتلُّ بيتًا في شارع عبَّاس، فصعدت إلى تلك المنطقة ثلَّة من الرِّفاق كان من بينهم الرَّفيق بنيامين غونين، وبعد نقاش وتداول وحتَّى صدام، قيل للرِّفاق ما لكم وللعرب، فكان الجواب: جئنا لنُرجِعهم بيوتهم ونُرجِع لهم بيوتهم. فاتَّصلْتُ بالرّفيق بنيامين الذي روى لي حادة مماثلة، بعد أن صادق على حادثة شارع عبَّاس، أنَّه ورد نبأ تجميع بعض من سُكَّان حيفا العرب في منطقة جبل الكرمل، قبل الجامعة اليوم (دينيا) لرميِهِم بالرَّصاص، لكنَّ قدوم الرِّفاق ومن بينهم بنيامين غونين السَّريع لتلك المنطقة ساعة وصولِهم الخبر حال دون قيام المجزرة”.
“أذكرُ أنَّه في إحدى زياراتنا الانتخابيَّة في شرق حيفا، استقبلتنا عائلة بحفاوة بالغة عرفنا سببها لاحِقًا حين حضر جدُّ العائلة أبو محمَّد، معلِنًا تأييده للحزب الشُّيوعيِّ والجبهة بقوله: بفضلهم بقينا في حيفا وبفضلهم رجعنا إلى بيتِنا ورجع لنا بيتُنا ورجِعت لنا أملاكنا. وأمُّ حنَّا من حيِّ وادي النّسناس تروي قصَّة أخرى مشابهة وتحيِّ فيه دور الشُّيوعيِّين في إرجاع غُرفةٍ من بيتها إليها كانوا قد أخذوها من عائلتها. وللحديث تتمة والسؤال يبقى من سيكتب هذا التَّاريخ قبل ضياعِهِ.. والأمل باقٍ بمطلع قصيدة أبو عايدة:
سَنَعُودُ يا حَيْفَا وَتَحْتَفِلُ          بِجُمُوعِنَا الوِدْيَانُ وَالجَبَلُ”.
وجاء في مؤلَّفي الأوَّل “يوميَّات برهوم البُلشفي” ص 83، عن التَّهجير والتَّشريد والطَّرد ما يلي:
رأى أبو عايدة تهجير سكَّان حيفا العرب عن طريق الميناء بآلافهم ورأى كيف يُسهِّل لهم رجال الأمن البريطانيِّ المرور عبر نقطة الحدود البحريَّة، فاتحين أبواب الميناء للنَّازحين العرب من جهة محطَّة الكرمل وشرق حيفا وجنوب المدينة ليلتجِئوا إلى ساحات الميناء والانتظار للبواخر البريطانيَّة التي انتظمت بإيعاز من الجيش الإنكليزيِّ وتحت حراستهم ورقابتهم لنقْلِهِم بحرًا إلى مدينة عكَّا، أو برًّا بسيَّارات انكليزيَّة أو صهيونيَّة أو عربيَّة (عميلة) إلى الحدود اللبنانيَّة وبدون مُقابل، المهم النَّزوح عن حيفا وتطهيرها من العِرْق العربيِّ، والتَّأكد من أنَّهم قد انتقلوا إلى هناك حسب المُخطَّط. لقد تجنَّد الانجليز والعصابات الصّهيونيَّة لنقلهم باتِّجاهٍ واحدٍ فقط، فيذكر طيِّب الذِّكر أبو طوني أنَّه حين أراد العودة بحرًا إلى حيفا وجد رفضًا قاطِعًا من رُبَّان البواخر العسكريَّة الإنكليزيَّة ومنعته وعائلته بصفاقةٍ شديدة من العودة،
لكنَّه عرف كيف يعود ليكون الخادم القضائيَّ لشعبه في وطنه”.
كانت المدينة تخلو من عربها، سكَّانها الأصليِّين، تدريجيًّا، يومًا بعد يوم..
لقد كان النُّزوح بدايةً للعائلات المقتدرة، من أبناء حيفا الأغنياء والأثرياء، وبعدها بدأ “التِّرحال” من الأحياء العربيَّة المتاخمة للأحياء اليهوديَّة، خاصَّة في شرق المدينة، حيث كانت المصائب تنهال على رؤوس سكَّان حيفا العرب ليلاً، من قتلٍ وقنصٍ وإطلاق نارٍ على المارَّة العاديِّين، وعلى بيوت السُّكَّان الآمنين لإرهابهم وإرغامهم على الفرار والشَّتات، إذ كان أزيز الرَّصاص يخرج من بنادقهم ورشَّاشاتهم كأزيز الرَّعد، الذي يقصف السَّماء قصفًا، ويقسمها إلى نصفين بخط برقٍ وهَّاج كعمود مُلتوٍ من نار نزل ليكوي الأرض ومن فيها، ممَّا يُثير في النُّفوس رعبًا ويزرع فيها خوفًا..
ففي الثَّاني من أيَّار من عام النَّكبة، التي ما زال شعبي يعيشها، ومنعًا للنُّزوح عن البلد وتشريد أهلها ولدرء خطر تصفية الوجود العربيِّ في حيفا وقضائها، قام الرَّفيق توفيق طوبي بصياغة منشور باسم “عصبة التَّحرُّر الوطنيِّ” وخطَّه الشَّاعر عصام العبَّاسي على ورق الستناسل لتُطبع منه النُّسخ للتَّوزيع بعدها على جميع عامَّة الشَّعب المنكوب، وبحضور الرَّفيق يوسف عبده واضعين دمَهم على أكفِّهم، في  مقرِّ العُصبة في حيفا (مقر اتِّحاد نقابات وجمعيَّات العمَّال العرب) في درج الموارنة رقم ستَّة عشر (الواقع بين شارع الرَّاهبات وشارع ستانتون)، نادي “إميل توما” اليوم، يدعون فيه سكَّان حيفا العرب إلى عدم الرَّحيل وعدم ترك بلدهم للقوَّات اليهوديَّة (كما جاء في المنشور).
لقد وزَّع رفاق العُصبة النِّداء على جميع الأهل في كلِّ مناطق حيفا العربيَّة،خصوصًا في منطقة الميناء، علَّ كلمات المنشور تغيِّر اتِّجاههم في آخر لحظة مصيريَّة من حياتهم ليختاروا البقاء في الوطن وليس التَّشرُّد والهلاك، كذلك قاموا بنقل المنشور تحت الحديد والنَّار إلى عكَّا والنّاصرة وباقي مناطق الوطن، لتوزيعِهِ، ولكبح جماح المأساة والنَّكبة. وفي نفس الوقت وزَّع رفاقنا هذا المنشور في ميناء بيروت للأهل الذين وصلوها عبر البحر هاربين من قصف وإرهاب وظلم العصابات الصَّهيونيَّة (توفيق طوبي..مسيرته ص56) وتحُثُّهم على العودة الى ديارهم حالاً..
لقد كان حظر التَّجوُّل في مناطق حيفا شديدًا ومراقبًا، إذ وزَّعوا على من تبقَّى فيها هويَّاتٍ جديدة، بعد أن صادروا هويَّاتهم القديمة، وحدَّدوا فيها تحرُّكات الفرد، في بلده، على أن يقتصر انتقاله في بلده على شارع أو شارعين، ومن يريد أن ينتقل من حيٍّ إلى آخر كان عليه أن يُصدر أمرًا يجيز له الإنتقال، على بطاقة خاصَّة، وإن انتقَل بدون تأشيرة يُجازى، يُسجن، “ذنبو على جنبو”، فقد كان التَّحذير على تأشيرة التَّجوُّل في المدينة مكتوبًا باللغة العبريَّة، وتُحذِّره من تجاوز أيِّ شارع غير مسجَّل في بطاقته!
لقد ساد جوٌّ من الرُّعب والخوف والهلع والقلق على مصير البلد واهل البلد..
كانت فاتحة البيان باسم عصبة التَّحرُّر الوطنيِّ، حيفا، وكانت خاتمته، كذلك، موقَّعة باسم العصبة..
لقد بيَّن المنشور في بدايته نهج سياسة المستعمر في تأجيج الصِّراع القوميِّ حتَّى لا يبقى لشعب فلسطين من حلٍّ الا التَّقسيم:
“إنَّ الكارثة المؤلمة التي حلَّت بكيان المجتمع العربيِّ في حيفا وقضائها، كارثة أرادها الاستعمار وسعى إليها جادًّا. هي من سلسلة مآسٍ رمى بها بلادَنا منذ أن سعى إلى إلغاء ما أجمعت عليه منظَّمة الأمم المتَّحدة من إنهاء الانتداب وجلاء الجيوش الأجنبيَّة”.
ويتابع المنشور، كشفه للمؤامرة القذرة التي يحيكها الثَّالوث الدَّنس لفلسطين، الثَّالوث النَّجس، إيَّاه، الذي نراه اليوم ضدَّ شعوبنا العربيَّة:
“وقد نبَّه حزبنا دائمًا إلى هذه المؤامرات التي يحيكها الاستعمار وإلى انجرار قادة الحركة الوطنيَّة في فلسطين وراء سياسة يُمليها الاستعمار البريطانيُّ، سياسة تقوم على تقوية الصِّراع القوميِّ بين العرب واليهود باعتبارها وسيلة لمنع التَّقسيم، وما دروا أنَّ الصِّراع القوميَّ إنَّما يُثبِّت التَّقسيم ويُفرضه بشكلٍ يؤمِّن مصلحة المستعمر ويسلب أهل البلاد ذلك الاستقلال الذي كان يمكن أن تضمنه منظَّمة الأمم المتَّحدة بتأييد القوى الدِّيمقراطيَّة فيها”.
لقد دعا المنشور أهل حيفا وقضائها، وكذلك أهل فلسطين، إلى العودة الفوريَّة إلى ديارهم وأملاكهم وارزاقهم وأحيائهم وبيوتهم ومدارسهم، والى المزاولة الفوريَّة لأعمالهم قبل أن “يقع الفأس بالرأس”، وبذلك يكونوا قد قطعوا الطَّريق على المحتلِّ وحَدُّوا من أطماعه في ابتلاع مصالح العرب، دعاهم إلى الصُّمود والتَّصدِّي وأن يصمدوا ويثابروا في الدِّفاع عن بلدهم، حتَّى يمنعوا العصابات من إتمام وإحكام سيطرتها على حيفا وقضائها:
“إنَّ مصلحة عرب حيفا وعرب فلسطين تحتِّم على سكَّان حيفا العرب الرُّجوع إلى مدينتهم إلى أعمالهم ومصالحهم، إنَّ مصلحة العمَّال العرب تقضي أن يعودوا ليحتلُّوا المراكز التي كانوا يعملون فيها ويرتزقون منها فلا يفسحون المجال للمنظَّمات اليهوديَّة المتطرِّفة لتنفيذ سياسة احتلال العمل والأرض. إنَّنا نهيب بمن نزحوا عن حيفا وقضائها من العرب الرُّجوع ليستمرُّوا في نضالهم في سبيل وحدة فلسطين واستقلالها”.
لقد خاطر رفاقنا بحياتهم حين قاموا بتوزيع منشور البقاء في الوطنوفي أحياء حيفا..
ارادوا ايصال رسالتهم بأسرع وقت ممكن، قبل أن يمخر لاجئوها عباب اليمِّ على سفن بحريَّة، التي ضمنتها لهم بريطانيا لنقل عرب البلاد باتَّجاه واحدلا رجوع منه (طريق مسدود)هو الاتِّجاه الخارج من فلسطين أو لركوب الحافلات عبر اليابسة الى ما وراء أرض الوطن، إلى الشِّتات، والمنفى، خارج فلسطين، حيث ارسل الملك الهاشميُّ عبد الله شاحناته إلى بلادنا حتَّى يضمن أن مسارها هو اتِّجاهٌ واحدٌ، اللجوء، وقد خاطر رفاقنا، ايضًا، بحياتهم حين وزَّعوا المنشور ذاته في ميناء بيروت حين نزل الفلسطينيُّون من المركبات إلى أرض الميناء ومنها إلى مخيَّمات اللجوء والضَّياع إلى مجهول ما زال يكتنف مصيرهم..
لقد هاجم المنشور الرَّجعيَّة العربيَّة،أداة الاستعمار الطَّيِّعة وقوى الظَّلام البريطانيَّة وعصابات بني صهيون على انواعها المتآمرة على مصالح شعبنا العربيِّ الفلسطينيِّ، حيث اعتبرت الرَّجعيَّة العربيَّة البقاء في الوطن خيانة كبيرة!
البقاء في الوطن خيانة والنُّزوح بطولة..!
ويوضِّحُ المنشور تواطؤ الاستعمار،مع اعوانه من الزُّعماء الصَّهاينة،على شعبنا في تنفيذ مشروع التَّقسيم، ليحصلوا على امتيازات استراتيجيَّة وماليَّة في مناطق الدَّولة اليهوديَّة ويُكمل فضْحه للمؤامرة على شعبنا، وفضْح سياسةَ الملك عبد الله:
“إلا أنَّ للعبة الاستعمار هذه شقًّا آخر، ففي الوقت الذي يتابع فيه وكلاؤه نشاطهم لإذكاء نار الحرب القوميَّة في فلسطين يقوم أولئك بتوجيه الرَّأي العام العربيِّ نحو الملك عبد الله عميل الاستعمار البريطانيِّ “ليُنقذ” فلسطين ويُنقذ متطوِّعي الجامعة العربيَّة من الورطة العسكريَّة التي وجدوا أنفسهم فيها والأمور تجري في هذه النَّاحية كما يريدها الاستعمار فقد اتَّجهت الجامعة العربيَّة نحو الملك عبد الله ليقوم بعمل حاسم، ولهذا السَّبب وحده زاره رئيس الهيئة العربيَّة العليا وأيضًا وفود عديدة من فلسطين. وهذا هو عينُ ما يريده الاستعمار الا وهو دخول الجيش العربيُّ بقيادة أبي حنيك لفلسطين. إنَّ لعبة الاستعمار ستتمُّ بأن يحتلَّ جيش أبي حنيك بعض المستعمرات اليهوديَّة النَّائية وبعض أقسام من فلسطين تحتِّم الوكالة اليهوديَّة بإدخالها في نطاق دولتها ويُنكِّل بسكَّانها اليهود موهِمًا العرب بأنَّه منقِذَهم وأنَّ أعماله البطوليَّة هذه توطئة لاحتلال فلسطين بأكملها وتسليمها للسُّكَّان العرب، إلا أنَّ جيش الملك عبد الله سيقف عند حدود معيَّنة له وعندئدٍ سيجد الاستعمار البريطانيُّ سبيلاً لهدنة يعقدها بين عملائه. أمَّا الملك عبد الله إذ يمثِّل دور “المنقذ” فإنَّه يأمل بالحصول على ترحيب عرب فلسطين الأمر الذي يُسهِّل له البقاء نهائيًّا في فلسطين في الأجزاء التي يكون قد احتلَّها جيشه. وهكذا تتمُّ لعبة الاستعمار البريطانيِّ بإقامة دولة يهوديَّة تؤمِّن مصالحه وما يطمع به من مراكز إستراتيجيَّة وامتيازات بتروليَّة، وفي الوقت نفسه يضمُّ القسم العربيَّ إلى شرق الأردن حيث يرتبط مليكها بمعاهدة رقٍّ وعبوديَّة”.
ويطالبُ رفاق العصبة في المنشور شعبَنا أن يأخذ الاتِّجاه الصَّحيح في نضاله من أجل فلسطين وحرِّيَّة فلسطين لتفويت الفرصة على العابثين بها، حتَّى لا يضيع الوطن:
“إنَّ مأساة حيفا وقضائها التي وقع ضحيَّتها عشرات الألوف من العائلات المشرَّدة ومئات القتلى والجرحى من نساء وأطفال يجب أن تفتَح أعين الشَّعب العربيِّ ليسلك طريق النِّضال الصَّحيح ضدَّ الاستعمار ومؤامراته، ضدَّ سياسة أعوانه وأُجَرائه من زعماء سياسيِّين وعسكريِّين يجرُّون الشَّعب العربيَّ إلى القَيد. إنَّ هذه المأساة ليست من صنع الغلاة الصّهيونيِّين الذين نفَّذوا رغائب الاستعمار فحسب بل ويساهم فيها أيضًا أولئك الزُّعماء بقسطٍ وافرٍ إذ قادوا الشَّعب العربيَّ إلى هذه المجازر التي لا تخدم إلا الاستعمار”.
ويدعو المنشور الشَّعب العربيَّ إلى عدم الانخداع بتصريحات العملاء المأجورين والعابثين والمستفيدين من مآسي شعبهم، ويدعوهم إلى الذَّود عن حياض الشَّعب والوطن والأرض والى النِّضال من أجل كرامة الإنسان وثباته فوق وطنه، مسقط رأسه، ويدعو كلَّ فرد في هذا الشَّعب الصَّابر والصَّامد أن يكون فطينًا ولبيبًا وفهيمًا:
“يجب أن لا ننخدع بتصريحات أولئك المأجورين الذين يستفيدون من مآسي الشَّعب العربيِّ وآلامه لتثبيت أقدامهم وأقدام المستعمرين. لن يُنقذ فلسطين خدَّامالاستعمار وعملاؤه، بل نضال سكَّانها المباشِر في سبيل تحطيم قوى الاستعمار لأجل الحرِّيَّة والاستقلال والجلاء”.
وكانت خاتمة المنشور، فضْحَ الإستعمار في تآمره مع آل صهيون ومع الجيوش العربيَّة التي مكَّنت آل صهيون منها:
“إنَّ ذلك الاستعمار، الذي ساعد القوَّات اليهوديَّة، على احتلال حيفا وقضائها، بمنعه عنها النَّجدات العربيَّة، من الطِّيرة والقرى المجاورة، ويسيطر في الوقت نفسه على حركات الجيش الأردنيِّ وسكناته، لن يسمح لهذا الجيش باحتلال حيفا، التي مكَّن الوكالة اليهوديَّة منها”.
ويدعو المنشور الجماهير الى الوحدة، ورصَّ الصُّفوف وتنظيمها، كمثل الجسد الواحد، ﴿..بُنيانٌ مرصوصٌ﴾في النَّضال بعزم وعزيمة ضدَّ الاستعمار ومواجهته وضربه في مقتَله، حتَّى تنعم البلاد بالحرِّيَّة والإستقلال والوحدة،  ومن اجل حرِّيَّة شعب فلسطين..
“فلنقف أمام الاستعمار ومؤامراته وأعوانه ولنوجِّه ضربتنا إلى صميم المستعمِر البريطانيِّ لأجل حرية فلسطين واستقلالها ووحدتها”.
لو قرأ شعبنا المنشور، النِّداء، الرِّسالة، لفَهِمَ من عنوانه ومن بين سطوره المأساة التي تحيط به، وفَهِمَ عُمق المؤامرة التي يحيكها له الثَّالوث الدَّنس، الرَّجعيَّة العربيَّة وعصابات صهيون والاستعمار،ولأدرك شعبنا انَّه وقع ضحيَّة مؤامرة رمت الى تشريده وتهجيره من وطنه، التي ما زال يُعاني منها، رغم مرور قرابة قرن من الزَّمن، دون أن يرى بصيص أمل في نهاية نفق العذاب الطَّويل!
لكنَّ المؤامرة كانت وما زالت أكبر..
والطَّامة الكُبرى هي أنَّه ما زال هناك، من ابناء شعبنا ومن شعوبنا العربيَّة، من يقبل بان يُذَرَّ الرَّماد في عيونه، ويبقى في مساره مثل حمير الحنَّانة، التي يضعون العِصابة على عيونها، حتَّى يراوح مكانه ويدور حول نفسه، وتنال العِصابة الصُّهيونيَّة مُناها منَّا..

(حيفا)

 

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*