اليسار اللبناني ومصيدة النسبية – الطائفية في الانتخابات النيابية – د. سمير دياب

قبل سنوات قليلة شعر أرباب النظام الطائفي بتفاقم المأزق الداخلي، وتعززت القناعات لديهم أن قوتهم الجماهيرية بدأت تضعف. فالعصبية الطائفية وصلت ذروة تمددها، والمذهبية فعلت فعلها في تخريب البيت الواحد، أما التفاهمات الفوقية الثنائية أو الثلاثية الطائفية فلم تعد محل ثقة الناس بها،لهشاشتها أو لسرعة تبدلها، كما أنها فاقمت من تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أمام هذا المأزق الحقيقيكان يستحيل عليهم اللجوء إلى خيار التمديد الرابع للمجلس النيابي، فعمدوا بالتكافل والتضامن إلى تغيير قواعد اللعبة،والالتفاف على جماهيرهم لامتصاص نقمتهم وغضبهم، عبر تقديم خطاب فعل الندامة والاعتراف بالتقصير، والايحاء بجدية معالجة الأوضاع المتهاوية وإجراء بعض الاصلاحات الضرورية اللازمة، ولا بد أن تكون البداية مع قانون إنتخابي جديد مفخخ، يوحي بمصيدة “النسبية”   تمثيل كافة القوى السياسية والشرائح الاجتماعية، وبالمضمون يعيد إنتاج الطبقة الحاكمة ذاتها بقوة، ولو بتعديلات قد تطرأ على احجام القوى السياسية المسيطرة لمصلحة محور 8 آذار على حساب محور 14 آذار طالما هذه الطبقة البرجوازية بأطيافها السياسية الطائفية متفقة على حماية وحراسة النظام السياسي الطائفي والنظام الاقتصادي الليبرالي.  

..وهكذا، شهد البلد مسرحية درامية من الرندحات والخطابات والحسابات والخلافات بين أهل السلطة  على مدى أشهر طويلة.. جرى خلالها غربلة القوانين الانتخابية المطروحة للنقاش،وبعد طول عناء خرج الدخان الابيض على قانون إنتخابي طائفي مزين بالنسبية و صوت تفضيلي واحد في كل قضاء، وتقسيم لبنان إلى 15 دائرة إنتخابية، وتشريع حق الانتخاب للمغتربين في الخارج، واجراء العملية الإنتخابية في يوم واحد على امتداد الاراضي اللبنانية في 6 أيار 2018.

رمت السلطة بقانونها المهجن الملغوم بمصيدة ” النسبية” في السوق، وسرعان ما نالت الرضى والقبول. رغم إعتراضات بعض القوى الطائفية على التقسيمات الادارية لبعض الدوائر، ورغم تحفظات قوى اليسار والعلمانية وبعض قوى المجتمع المدني على القيد الطائفي. لكن في نهاية المطاف علقت جميعها في مصيدة لعبة الطبقة البرجوازية الطائفية تحت شعار خوض تجربة “النسبية” لأول مرة. مع تمادي بعضها في تبرير إيجابيات القانون، وراح بعضها الآخر يتسابق لاعلان ترشيحاته قبل أطراف السلطة مع تعميم نظرية القدرة على خرق لوائح السلطة من خلال النسبية. وبرغم ادانة جميع قوى التغيير والديمقراطية  للنسبية المنقوصة والمشوهة المرتبطة بالطائفية والصوت التفضيلي، وتحذير البعض من خطورة المشاركة في العملية الانتخابية والوقوع في مصيدة فخ القانون، ودعوتها إلى إكمال المعركة الميدانية في الشارع ضد  السلطة وقانونها الانتخابي وتأسيس حركة سياسية وشعبية ديمقراطية ضاغطة من أجل فرض قانون إنتخابي ديمقراطي يقوم على النسبية خارج القيد الطائفي وفق الدائرة الوطنية الواحدة. إلا أن المواقف والتحليلات الشعبوية والافراط في التفاؤل أفضت بالنهاية إلى إنخراط جميع قوى التغيير والديمقراطية في المعركة الإنتخابية. وبذلك، ضمن أهل السلطة والمال خلو الشارع من المعارضة الوطنية ضدهم وضد قانونهم، ليتفرغوا بدورهم  إلى إدارة معاركهم الإنتخابية بهدوء وطمأنينة، لينطلق سباق التسلح السياسي والطائفي والمذهبي بكامل قوته، مع دفع لعدة شغل استطلاعاتالرأي ومراكز الدراسات والدعاية والاعلام  والانفاق المالي والابواق التخوينية إلى اقصاها لتصب في خدمة معارك السلطة. مع اعتبار كل طرف من أطراف السلطة أن معركته هي معركة  مصير ووجود مستنداً في ذلك الى المتغيرات الجارية في المنطقة وخاصة في سوريا التي إنسحبت  بنتائجها على على التبدلات السياسية المحورية والتموضعات المختلفة لطرفي 8 و14 آذار. وعلى أهمية تقدم المحور المعادي للمشروع الاميركي –  الصهيوني الرجعي في المنطقة، إلا أن ذلك لم يغير شيئاً في بنية النظام السياسي الطائفي، ولن يتغير شيئاً طالما اطراف هذا النظام لا يؤمنون بالعمل الوطني، ولا بالاصلاح والتغيير. ولا يريدون ذلك، طالما العوامل الطائفية تؤبد نظامهم وسلطتهم. وهذا ما دفع بقوى اليسار والديمقراطية إلى خوض المعركة الانتخابية من الموقع الوطني المستقل.

ولكن هل تحقق ذلك، وكيف؟    

شهور عدة فرغت الساحة كلياً من النضالات السياسية الوطنية والشعبية ضد قانون الإنتخاب الجديد، أو ضد تردي الاوضاع الاجتماعية أو الاقتصادية لإنشغال قوى التغيير والديمقراطية بالتحضيرات اللازمة لخوض معركة الانتخابات، وتجميع قوى الاعتراض وتركيب التحالفات واللوائح. في المحصلة رست معركة الشيوعي على خوض الانتخابات في خمس دوائر إنتخابية من أصل 15 دائرة وهي:

دائرة الجنوب الثانية (صور الزهراني) مرشح شيوعي واحد من اصل 7 مقاعد (عن قضاء صور) في لائحة تحالفية مع رياض الاسعد المتحالف بدوره مع التيار الوطني الحر، وقد حصلت لائحة ” معاً نحو التغيير” على 11481 صوتاً من أصل 150264 مقترعاً. اما الحاصل الانتخابي لخرق مقعد فيبلغ 21043 صوتاً.
دائرة الجنوب الثالثة (النبطية، بنت جبيل، مرجعيون وحاصبيا) وهي المعركة السياسية الوطنية المستقلة الأم للحزب الشيوعي. ترشح في هذه الدائرة ثلاثة شيوعيين (واحد عن كل من قضاء النبطية ومرجعيون وبنت جبيل) مع عدد من السياسيين المستقلين، وقد حصلت لائحة صوت واحد للتغيير” على 5895 صوتاً من أصل 228563 مقترعاً . اما الحاصل الانتخابي لخرق مقعد فيبلغ 20526 صوتاً.
دائرة جبل لبنان الرابعة (الشوف وعاليه – 13 مقعداً) خاضها الشيوعي بمرشح واحد عن دائرة الشوف ضمن لائحة ” كلنا وطني” وهي ذات مكونات واتجاهات سياسية مختلفة تمثل قوى المجتمع المدني. حصلت اللائحة على 9987 صوتاً من عدد المقترعين البالغ 173320 مقترعاً، اما الحاصل الانتخابي لخرق معقد فيبلغ 13125.9صوتاً.
دائرة جبل لبنان الاولى( كسروان وجبيل- 8 مقاعد) خاضها الشيوعي بمرشح واحد في قضاء جبيل ضمن لائحة “كلنا وطني”، وحصلت اللائحة على 2526 صوتاً من أصل 117603 عدد المقترعين. اما الحاصل الانتخابي فيبلغ 14452 صوتاً.  
دائرة البقاع الثالثة (بعلبك والهرمل عدد المقاعد 10) خاضها الشيوعي بمرشحة واحدة ضمن لائحة “الإنماء والتغيير” ذات المكونات السياسية التقليدية ومن قوى مدنية مستقلة، حصلت اللائحة على 4053 صوتاً من أصل 190268 مقترعاً. اما الحاصل الانتخابي فيبلغ 18706,9 صوتاً.  

في محصلة النسب العامة (كما نشرت) فإن لوائح تحالفات الشيوعي في خمس دوائر حصلت على   3,94 %. اما على المستوى الوطني فبلغت 1,8 %. اما أرقام الاصوات التفضيلية للشيوعيين فقط من ضمن اللوائح ( كما وردت في بيانات وزارة الداخلية المنشورة على موقعها)، فإنها حصلت  على التالي :

المرشحة سهام انطون بعلبك الهرمل 1123 صوتاً.
المرشح محمد المقداد ( جبيل) 247 صوتاً.
المرشح انطوان فواز (الشوف) 577 صوتاً.
المرشحة زويا جريديني ( عاليه) 1688 صوتاً (  من مجتمع مدني مدعومة من الحزب الشيوعي)
المرشح رائد عطايا (صور) 1382 صوتاً.
المرشح علي الحاج علي ( النبطية) 2541 صوتاً
المرشحة هلا أبو كسم ( مرجعيون وحاصبيا) 1593 صوتاً
المرشح أحمد مراد ( بنت جبيل) 1044 صوتاً.

عدا الاصوات التفضيلية للشيوعيين 8507 صوتاً يضاف اليها الاصوات التفضيلية للمرشحة زويا جريديني 1688 فيكون مجموعها 10195 صوتاً، وهي بنسبة 1,18% في الدوائر الخمس مع (عاليه)، اما على المستوى الوطني فتكون النسبة حوالي 0.54%  من أصل 1861204 مقترعاُ أي ما يعادل 49,7% من نسبة الاقتراع العامة في إنتخابات عام 2018.

اما أصوات الشيوعيين في الدوائر الاخرى التي لم يتم ترشيح الشيوعيين فيها وعددها عشر دوائر. فقد توزعت بين مقاطعةللانتخابات، أو التصويت للوائح المجتمع المدني في دائرة المتن وبعبدا، أو لقوى سياسية ديمقراطية أو مدنية في لوائح مستقلة (بيروت الثانية)، أو للوائح سياسية تقليدية لكنها في مواجهة لوائح السلطة (طرابلس)، أما الارباك السياسي والانتخابي الأكبر فحصل في دائرتي (البقاع الاوسط والبقاع الغربي) حيث أن لا بوصلة ولا وجهة سياسية محددة فكان التخبط الانتخابي سيد الموقف. اما في دائرة الجنوب الاولى( صيدا جزين)  فذهبت أصوات الشيوعيين وانصارهم إلى دعم المرشح أسامة سعد ( التنظيم الشعبي الناصري) بالرغم من وجوده على لائحة الثناني أمل وحزب الله. اما في دائرة عكار فلم تسلم بدورها من الارباك والتخبط.  

من جهتها طيرت مكونات المجتمع المدني بالونات عشرات الترشيحات في أكثر من ثلثي عدد الدوائر الانتخابية. وبعد نقاشات وخلافات وإنشقاقات فيما بينها اتفقت بعض مكوناتها على 9 لوائح تحت أسم واحد كلنا وطني“، و3 لوائح أخرى خاضت المعركة الانتخابية منفردة بأسماء مختلفة ..

كل هذه الارباكات والخلافات بين قوى التغيير والديمقراطية كما بين مكونات المجتمع المدني المتكاثرة كالفطر، بالاضافة إلى تناقض الخطاب السياسي بين البرامج التغييرية لقوى اليسار والليبرالية الملطفة لقوى المجتمع المدني رسمت تساؤلات عدة حول الادارة السياسية التحالفية لمعركة الاستحقاق الوطني، وأبعد من ذلك، حول أدوات التغيير الديمقراطي !! .

هذا التشتت، أثر سلباً على نتائج المعركة الانتخابية لمصلحة معارك احزاب السلطة التي راحت تخطو خطواتها باتجاه إنجاز الاستحقاق الانتخابي المتأخر خمس سنوات عن موعده على أفضل شكل طائفي له. وسط تقدير وتهليل اقليمي ودولي، ووسط تحالفات أطرافها العجيبة المختلفة بين دائرة وأخرى،يترافق ذلك مع تفوقها في إبراز تقنياتها الحديثة لإبهار العالم بشفافية ديمقراطيتها (تصويت الخارج داتا المعلومات الشاشات – فرز الاصوات … الخ)، بغرض طي صفحة الفساد واستعادة الثقة بالنظام المتهالك، وإعادة تكريس زعاماته السياسية – الطائفية دون محاسبة أو معاقبة. وهذا ما نجحت الطبقة البرجوازية بعلامة امتياز بعد صدور نتائج المعركة الانتخابية حيث حصدت 127 مقعداً من أصل 128 والاخير ذهب إلى لائحة كلنا وطني عن دائرة بيروت الاولى بعد فوز المرشحة بولا يعقوبيان (حزب سبعة) عن مقعد الارمن الارثوذكس ب 2500 (صوت تفضيلي) وحصول لائحتها على حاصل انتخابي واحد وصل إلى 6842 صوتاً من عدد المقترعين 44714.        

في 6 أيار2018، يوم الانتخابات، نصف الشعب اللبناني تفوق على ذكاء السلطة الطائفية وكشف خطتها وعاقبها بمقاطعته للانتخابات. هذه النسبة المرتفعة لم تعلق في مصيدة الطبقة البرجوازية، ولم تنخدع بوعودها الجديدة، ولم تؤمن أساساً بقانونها الانتخابي، بعكس الاحزاب التغييرية التي غلبت شكل القانون على مضمونه ووصلت إلى الحائط المسدود (فلا هي استطاعت أن تقنع الجماهير الغاضبة والمقاطعة بمواقفها وخطابها وحضورها بتغيير رأيها أو في تجيير أصواتها لمصلحة التغيير. ولا هي استطاعت بتهليلها ” للنسبية” من أن تنال حاصل إنتخابي). ولا حرج إن استنتجنا أن النتائج المحققة في العملية الانتخابية للشيوعي أفضت إلى بروز أكثر لمعضلتين(أزمتين) : الاولى، أزمة العلاقة والثقة مع الناس . والثانية، أزمة داخلية. والازمتان بحاجة إلى معالجة سياسية وتنظيمية وبرنامجية وتحالفية شاملة، وإلى إعلان مواقف ثورية جريئة وصريحة من القيادة المسؤولة عن سير العملية الانتخابية والنتائج، بعد أن حصد تسونامي تحالف السلطة والمال نسب التصويت الساحقة ونال أكثر من 99 % من عدد المقاعد النيابية(منهم 6 نساء فقط)، ولو بوجوه جديدة وأسماء مختلفة، إلا أن جميعها تنبع من ذات الينابيع الاقطاعية أو الحزبية الطائفية أو الرأسمالية الوافدة بقوة إلى الندوة البرلمانية. بغض النظر عنتقييمنا للتعديلات الطفيفة التي طرأت على زيادة أو نقصان حجم أو وزن هذه الكتلة السياسية الطائفية أو تلك، إلا أن حراس النظام السياسي الطائفي  الأذكياء نجحوا في إعادة إنتاج نظامهم وإحكام سيطرتهم المطلقة على البلاد والعباد وسط أجواء سياسية واقتصادية واجتماعية وطنية مقلقة جداً، وأوضاعإقليمية خطيرة جداً.

*****

نتائج الانتخابات لا تليق بحزب المقاومة الوطنية والتغيير الديمقراطي، ولا بتاريخ نضاله الوطني والطبقي. والجميع أمام تحدي النهوض الحقيقي لهذا الحزب لما يمثله من رافعة وطنية، والعمل على إنتاج رؤية وخطة وبرنامج نضالي لحزب شيوعي ثوري قادر على خوض المعارك الوطنية والطبقية بقوة العمال والفئات الاجتماعية الكادحة. بعد أن أثبتت التجارب إن النضال من ابراج عاليه بعيدة عن نبض وحماية الناس هي معارك دونكيشونية.  

(يتبع)

كاتب سياسي

 

بيروت 15 أيار 2018

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*