قانون القومية من منظور العلاقة بين القانون الدستوري والقانون الدولي – د. جوني عاصي

 

يتضمن قانون القومية، والذي أصدره الكنيست الإسرائيلي بتاريخ 19/07/2018، ثلاثة مستويات. أولا، يوجد تفضيل لمجموعة اثنية، وهي الأغلبية اليهودية، في رموز وموارد الدولة، تعرف هوية الدولة انطلاقا من هوية المجموعة اليهودية (العلم، النشيد الوطني الخ…) وتسخر موارد الدولة في تطوير وتعزيز التجمعات اليهودية والاستيطان اليهودي. بالطبع، يترافق هذا التفضيل مع تغييب للأقلية الفلسطينية وحتى مع المساس بأحد العناصر الموضوعية لهوية هذه الأقلية أي اللغة حيث يحدد القانون مكانتها في المؤسسات الرسمية. ثانيا، يمنح هذا التفضيل (والتغييب) شرعية من خلال خطاب حول حق تقرير مصير حصري للشعب اليهودي في “ارض إسرائيل” أي في فلسطين التاريخية وهذا بدوره يطعن في الحقوق الجماعية للمجموعة الفلسطينية. لقد ناقشنا في مكان اخر ان حق تقرير المصير لا يذهب مع خطاب قومي-اثني كونه يتعارض مع الخطاب حول الكرامة الإنسانية والذي يشكل حق تقرير المصير جزءا مهما منه. يضاف الى ذلك انه في القرارات القضائية الدولية والوطنية اعتبر حق تقرير المصير بانه حق لكل شعب لكن بشرط تعريف الشعب بشكل تعاقدي بمعنى المواطنة وليس بشكل اثني بمعنى سيطرة مجموعة اثنية على المجموعات الأخرى داخل الدولة. ثالثا، منح هذا التفضيل وشرعيته اطارا او شكلا دستوريا من ناحية ان قانون القومية هو قانون أساسي، مما يعني ان المراجعة الدستورية التي يمكن ان تقوم بها المحكمة العليا الإسرائيلية لا بد وان تأخذ بعين الاعتبار هذا القانون الأساسي، ولا يبقى امام المحكمة هامشا الا في مجال التفسير، الالتزام برغبة المشرع او اخذ بعد معين من خلال تفسير يلتزم بمنطق النص.

لا شك انه سيكون لهذا القانون تبعات في المستقبل وهذا ما بدأنا نراه مثلا بالنسبة لمبدأ المساواة الذي تم التأكيد عليه في قرار قعدان (قرار المحكمة العليا الإسرائيلية 6698/95 بتاريخ 08/03/2000) حيث تعهد أعضاء بلدية مدينة العفولة بالحفاظ على الطابع اليهودي للمدينة والذي يعني عدم قبول سكان عرب في احياء المدينة(27/11/2018). كذلك في قرار للمحكمة المركزية في القدس (19/09/2018) استند القاضي موشي دروري على قانون القومية لمطالبة حماس بدفع تعويض لمواطن يهودي تضرر من عملية قام بها أحد الفلسطينيين قبل عشرون عاما، في العام 1998.

في هذا المقال، ما يهمني هو الإطار الدستوري لقانون القومية وعلاقته مع القانون الدولي. السؤال الذي يطرح هو إذا كان قانون القومية يتلاءم مع المعايير الدولية وإذا لم يكن كذلك بمعنى انه إذا تعارض مع هذه المعايير فأي من القانونين يسود، القانون الدولي ام القانون الدستوري؟

يتضمن السؤال نقطتين سأحاول مناقشتهما. أولا، من المتوقع ان يذهب القانون الدستوري مع القانون الدولي، وثانيا، وجود نزعة سيادية بمعنى اعتبار الدستور المرجعية العليا لا يؤثر في مسؤولية الدولة وضرورة احترامها للمعايير الدولية.

بالنسبة للنقطة الأولى من المهم ان نشير ان كلا القانونين، القانون الدستوري والقانون الدولي، يتشاركان في الحد من سلطة الدولة، داخليا القانون الدستوري وخارجيا القانون الدولي. هذا ما أكدت عليه النظرية السياسية والقانونية خلال القرن السادس عشر على يد بودن وغروشيوس. يهدف القانون الدولي الى تحقيق الاستقرار في العلاقات بين الدول والى حماية الافراد بينما القانون الدستوري فيهتم بمصدر السلطة توزيعها وعلاقة الفرد بها. يخاطب القانونين مؤسسات الدولة وذلك بعكس القانون الوطني الداخلي غير الدستوري الذي يخاطب الافراد. اذن، ليس بالغريب ان يعرف القانونين تطورا موازيا: في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى نشهد تطور دستوري مع دستور جمهورية فايمر في المانيا 1919 وبذات الوقت تطور للقانون الدولي تمثل مع نظام عصبة الأمم لكن أيضا مع اتفاقية باريس 1928 والتي حدت من استخدام القوة والعنف في العلاقات الدولية الا في حالة الدفاع عن النفس. هذا التطور الموازي للقانونين أصبح بارزا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث من جهة نرى دسترة للقانون الدولي بمعنى ان حقوق الانسان والتي كانت جزء من القانون الوطني والدستوري تحولت الى قانون دولي مع الإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948 ومع العهديين الدوليين 1966، ومن جهة أخرى أصبح القانون الدولي لحقوق الانسان المصدر الأساسي للقانون الدستوري مثل اسبانيا في العام 1978 حيث تم تبني الإعلان العالمي لحقوق الانسان كوثيقة وطنية وجزء من الدستور الاسباني.

من ناحية القانون الدولي، القانون الداخلي بما في ذلك القانون الدستوري وجب ان يذهب مع القانون الدولي. فمادة 2 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية 1966 تطالب “الدول الأطراف بأخذ الخطوات الضرورية بما في ذلك الإجراءات الدستورية لتنفيذ مواد العهد”. كذلك مادة 27 من اتفاقية فيينا للاتفاقيات تنص على ” لا تستطيع الدول التنصل من التزاماتها الدولية من خلال الاستناد على قانونها الداخلي، بما في ذلك قانونها الدستوري”. كما ان القرارات الدولية والتي اتخذت ضد الولايات المتحدة بخصوص التزاماتها وفق اتفاقية العلاقات القنصلية 1963 اكدت على ذلك (Avena 2004 and LaGrand 2001).

من ناحية القانون الداخلي، فالموقف غير واضح حيث نجد هناك من يمنح القانون الدولي مكانة اعلى من الدستور (هولندا) وهناك من يعتبر ان القانون الدولي متساو مع القانون الدولي (النمسا) وهناك دول كثيرة تعتبر ان القانون الدولي وبالتحديد المعاهدة هي بين القانون الدستوري والتشريع العادي. كما انه في موضوع الشرعية الداخلية التي يمنحها القانون الداخلي للقانون الدولي نجد من يتبنى نهج التشريع (تقديم المعاهدة للتصويت في البرلمان كأي مقترح قانوني) او نهج التوقيع والمصادقة (من المفضل ان يتشارك البرلمان والحكومة في ذلك). المهم هنا، هو إذا كانت الدولة تلتزم فقط بالمعايير الدولية التي تم ادماجها ام عليها أيضا الالتزام بمعايير لم يتم ادماجها او ما تأثير هذه المعايير غير المدمجة على القانون الداخلي (مثلا في الولايات المتحدة اعتبر الدستور في مادة ستة فقرة 2 ان الاتفاقيات جزء من القانون الأمريكي دون ذكر العرف والمبادئ العامة وهي مصادر أخرى في القانون الدولي). باختصار، نجد تناقض في موقف الدول بين قبولها لفوقية القانون الدولي وبين قبولها للصراع بين المعايير الداخلية والمعايير الدولية.

لا أحد يمنع الدول اذن من تبني معايير مخالفة للمعايير الدولية لكن ذلك يشكل انتهاكا للقانون الدولي وله تبعات على مسؤولية الدولة وفق قانون مسؤولية الدولة في القانون الدولي (نصوص 1979 و2001). في الفترة الأخيرة يوجد “نزعة سيادية” بمعنى تفضيل الدستور كمرجعية في تفسير حقوق الانسان على القانون الدولي لدى بعض محاكم دستورية مثل المحكمة الألمانية في قضية غورغولو2004 حيث اعتبرت انه في حالة صراع بين المعايير الدستورية والدولية فالمرجعية الأخيرة هو الدستور.

اذا عدنا الى قانون القومية فانه لا يكفي ان نعتبر تناقضه مع التطور التاريخي للقانونين الدستوري والدولي ولا يكفي ان نأخذ مواقف كل من القانونين تجاه العلاقة بينهما، اذ لا بد ان نفرق بين قانون دولي عادي وقانون دولي غير عادي بمعنى القواعد الأمرة والتي يشكل انتهاكها انتهاكا لأسس النظام القانوني الدولي ككل (Erga Omnesobligations, ICJ, Barcelona Traction 1970 ). فقانون القومية يطرح معايير ابارتهايد وتمييز عنصري وهذا يدخل ضمن المساس بالقواعد الآمرة وانتهاك لنواة صلبة من المعايير الدولية.

كما ان الحديث عن نزعة سيادية يخص تفسير معايير حقوق الانسان وليس مواقف تتعارض في جوهرها مع هذه المعايير. فالإشارة الى النزعة السيادية في موقف المانيا لا يؤثر على كونها دولة مفتوحة على القانون الدولي في سياستها الخارجية وفي ادماجها للمعايير الدولية. اما في الحالة الإسرائيلية في قانون القومية فالموضوع مختلف وإذا أردنا ان نشير الى نزعة ما فهي النزعة الفاشية والتي تستحضر مقارنة أخرى مع تجربة جنوب افريقيا، اذ ليس بالغريب ان نسمع أصوات من داخل المعسكر الصهيوني ذاته بان هذا القانون هو توسيع لرقعة براديغمالضفة الغربية الى الداخل، بكلمات أخرى هذا يعني رفع الغطاء عن الكولونيالية الاستيطانية والفاشية. بالاستناد على تجربة جنوب افريقيا لا بد من الاستعانة بالمعايير الدولية ولا بد من تدويل الصراع بين الأقلية الفلسطينية والتي تشكل شعبا اصلانيا (يكفي وجود شعب في إقليم قبل قيام الدولة لاعتباره شعبا اصلانيا) ونظام السيطرة الذي تمثله إسرائيل. لقد مثلت دساتير جنوب افريقيا تلخيص للمعايير الدولية وتطويرها حيث طرح في سنوات التسعينات الحق في الدمقراطية. استخدم هذا الحق بشكل سيء على يد الدول الكبرى للتدخل في العراق وأفغانستان الا ان النموذج الجنوب افريقي يبقى المعنى والتطبيق لهذا الحق.

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*