ما بين عين إبل وحيفا.. د. خالد تركي حيفا

 

بين عين إبل وحيفا ثمانون عامًا من الصَّداقة والرِّفاقيَّة والحياة المشتركة، ما بين سرَّاء ضرَّاء، تعرف مدًّا ولا تعرف جزرًا، علاقة زادها العوز والحاجة وقسوة الحياة عليهما وعلى سائر الفقراء والمحتاجين متانةً وصلابةً ورصانةً وتراصًّا..

أن تختار اقرباءك فهذا من سابع المستحيلات، فانت لا تختار والدَيك ولا اجدادَك ولا ابناءك، ولا مسقط راسك ولا ديانتك ولا قوميَّتك، ولا حتَّى اسمَك، لكنَّك تستطيع أن تصطفي أصدقاءك ورفاقك وأحبابك وتستطيع أن تختار مكان اقامتك وأن تغيِّر طريقة حياتك وفكرك ودربك ونهجك، وان تعيش الحياة التي تريدها كيفما تشاء وأين تشاء ومتى تشاء ساعة تشاء، بأمانة وإخلاص وتفانٍ، إن شئت لها أن تكون كذلك..

أعرف الرَّفيق موسى ناصيف، منذ أن رأت عيناي ضوء الشَّمس، على قمم جبال الكرمل الشَّمَّاء، فقد رأى من خلال حياته اليوميَّة أن طريق نصر شعبنا وتحرُّره من الاحتلال ومن الإضطهاد القوميِّ والطَّبقيِّ هو طريق العدالة الاجتماعيَّة وأخوَّة الشُّعوب والأمميَّة ونفي التَّزمُّت الدِّينيِّ والقوميِّ، لأنَّه يؤدِّي بمسيرتنا الكفاحيَّة إلى الهلاك والفشل، لأنَّ العالم يقوم حسب التَّوزيع الطَّبقيِّ والانتماء الطَّبقيِّ وليس على الانتماء الدِّينيِّ أو المذهبيِّ أو الإثنيِّ أو القوميِّ أو العرقيِّ..

أَيْنَمَا وُجِدَ الظُّلْمُ فَذَاكَ وَطَنِي” هذه مقولة لمناضل الحرِّيَّة أرنستو تشي جيفارا، حيث كانت تُزيِّن صورته سيّارة وبيت هذا الرّفيق الذي سأُحدِّثكم عنه، ورافقته ايضًا في غرفته في المستشفى في أيَّامه الأخيرة، والذي يعتبر أنَّ الكون مقسَّمٌ إلى طبقات وأنَّ كلَّ مشاكل عالمنا وصراعاته مبنيَّة على أساس طبقيٍّ محضٍ، وإن أخذتْ بعض الأحيان صبغةً طائفيَّة، مذهبيَّة  أو قوميَّة، والوعي الطَّبقي بكلِّ أشكاله النِّضاليّة والكفاحيَّة هو الكفيل بتحرير الشُّعوب من نير الاحتلال ومن الاستغلال الطَّبقي، وهذا لا يمنع الفرد من الاعتزاز والافتخار بانتمائه القوميِّ، فإن لم تكن أمميًّا لن تكون أبدًا قوميًّا صادقًا، وفي هذا السِّياق يحقُّ للشّيوعي في وطننا، الاعتزاز بانتمائه العربيِّ كما يحقُّ له أن يؤمن بالوحدة العربيَّة القائمة على أسس العدالة الاجتماعيَّة والدِّيمقراطيَّة والمساواة، فقد قال رفيقنا أبو سامي “ستبقى الشّام منبتًا ومقرًّا للوطنيَّة العربيَّة ومنارة للثُّوَّار والأحرار في وطننا العربيِّ الكبير على مرِّ العصور”. وحين سأله المحقَّق حين اعتُقل في مطلع السَّبعينات من القرن المنصرم، بتهمة ملفَّقة على أنَّها “أمنيَّة” مع المناضل داود تركي ورفاقه، أنَّه رآه في دمشق، أجابه رفيقنا أبو سامي:”كنتُ في الشَّام عندما كنتَ أنت في رحم أمِّك، (استعمل كلمة أخرى، من حرفَين)، فبلاد الشَّام كانت وما زالت وطني وعين إبل مسقط رأسي، وأنا أنتمي حضاريًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا وقلبًا وقالِبًا إلى بلاد الشَّام“.

كان يُردِّد دومًا هذه الأبيات بكلِّ عزَّة وشموخ:

أنتِ سوريَّة بلادي   أنتِ عنوان الفخامة

كلُّ من يأتيكِ يومًا   طامعًا يلقى الحِمام

وُلِدَ الرّفيق موسى الياس موسى ناصيف، أبو سامي، في الثّالث من شهر كانون الثّاني من العام ألفٍ وتسعِمائةٍ وخمسةٍ وعشرين في قرية عين إبل، قضاء بنت جبيل، في الجنوب اللبناني الصَّامد والمُحَرَّر، حيث تبعد عن بيروت مائة وأربعين كم وحوالي خمسة كم عن حدود بلادنا الشّماليّة، ويحدُّها من الشَّمال جبل الباروك والحَرَمُون (الشَّيخ)، أمّا جبل البَاروك فهي سلسلة جبليَّة تمتدُّ من جبال نيحا في منطقة الشُّوف إلى ضهر البيدر..

سكن والده الياس ناصيف مدينة حيفا منذ ولادة رفيقنا موسى، حيث كان يعمل حارسًا في أحد مكاتب بلديَّة حيفا وكان يراه مرَّتين في السَّنة حين كان يأتي قرية عين إبل لزيارة أبناء عائلته بمناسبة الأعياد، وقد استقرَّت العائلة، لاحقًا، في مدينة حيفا عام ألفٍ وتسعِمائةٍ وثمانية وثلاثين، حينها التحق بمدرسة الفرير.

كان والده صديقًا حميمًا لجدّي سمعان، أبو داود، فقد كانا يعملان سويَّة في بلديَّة حيفا كلٌّ في وظيفته وربطته أواصر صداقة صادقة وصدوقة مع عائلتنا في حيفا. وحين كان يذهب والده لزيارة عائلته في عين إبل كان يحدِّثهم الكثير عن حيفا وعن علاقته بعائلتنا وخصوصًا عن عمِّي داود، أبو عائدة، ذلك “الشَّاب النَّشيط والأديب المثقَّف والوسيم والذَّكي والزْكِرت والقبضاي” كما كان يصفه أبو موسى.

يقول أبو سامي:”كنتُ منذ طفولتي، في عين إبل، متمرِّدًا على كلِّ شيء من حولي وبالأساس على المُختار ورجال الدَّرك الفرنساوي واللبناني لاحقًا، وعلى جميع الميسورين ورجال الدِّين الذين كانوا يُعاملون أبناء الأغنياء بدلالٍ وغنجٍ وتمييزٍ خاصٍّ وكأنَّنا غير موجودين، نحن أبناء الطَّبقة المسحوقة والعاملة، كنتُ أذهب إلى المدرسة حافيَ القدمين حتَّى أيَّام البرد القارص والماطر والمُثلِج، وفي العام خمسة وثلاثين من القرن المنصرم، عندما اندلعت الحرب بين الطِّليان وبلاد الحبشة كان أبناء العائلات الميسورة يتوعَّدوننا ويهدِّدوننا بأنَّ مصيرنا سيكون نفس مصير سكَّان الحبشة السُّود إذا تمادينا وتجرَّأنا مرّةً في حياتنا عليهم، فقد كانوا يقولون لنا أنتم أحباش ونحن طليان نريد أن نُخلِّص عليكم، لكنّي جنَّدتُ الكثيرَ من شباب البلد للتَّصدِّي لهذا التَّهديد وفُزنا..”.

لقد تعرَّف رفيقنا موسى ناصيف الحاضر روحًا في مآثره الخالدة، على الحزب الشُّيوعي، في اربعينات القرن المنصرم، ويقول أنَّه تعرَّف على صحيفة الإتِّحاد من خلال مكتبة بولس فرح، التي كانت تقع في شارع مار الياس رقم ستَّة في ساحة الخمرة، التي كانت في ساحة الخمرة: “كنتُ أتردَّد دائمًا على مكتبته لشراء بعض الكتب وجريدة “الدفاع” ذات الميول “القوميّة” أو بالأحرى القومجيّة، ولم يكن لي معرفة أو علم بأنه يوجد جريدة اسمها “الاتحاد” وعندما عرضها عليّ رفضتُ شراءها أو حتّى قراءتها، لأنَّهم علَّمونا في مدرسة الفرير في حيفا أنَّ الشُّيوعيِّين كفَّار ولا يفرِّقون بين أمَّهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم، هكذا بدون أخلاق، لذلك عندما أصرَّ وألحَّ عليَّ أن آخذها واقرأها بدون مقابل رفضتُ، فأمسكني من أذني مثل أستاذ مدرسة يريد تعليم تلاميذه وفرك أذني وصفعني صفعة خفيفة على خدِّي وأجبرني على أخذها وقراءتها، وبعدما قرأتها تغيَّر تفكيري كليًّا وكأنِّي وجدت شيئًا كنت افتقده، شعرْتُ أنَّني أولد من جديد. حينها أصبحت الاتحاد بالنسبة لي، رفيقة درب وصديقة وموجِّهة ومُثقِّفة وبوصلة توجِّهني التَّوجيه الصَّحيح، وبعد قراءتي الاتحاد تعرَّفتُ على أفكار جديدة وعالم جديد، حيث تغيَّر تفكيري كلِّيًّا وتحوَّل من أقصى اليمين إلى اليسار تعرفتُ من خلالها على الاتحاد السُّوفييتي وشعبه الذي قاتل النَّازية وخلَّص البشريَّة من شرِّها ومن أفكارها وأخطارها“.

أيُّها الثَّائر العربيُّ الأمميُّ، أجد الآن نفسي واقفًا أمامك ايها الغائب في حضورك وأقفُ أمامك أيُّها الحاضر في غيابك، أنظر إلى عينيك لأرى فيهما صورة جدِّي سمعان، أبو داود، الذي لم تحظَ عيناي برؤيته حيًّا، ولم أنعم بحضنه الدَّافئ ولا بضمَّة لعوبة بين ذراعيه لأقبِّل وجنتيه وألاعب شاربيْه، حيث ترك اهل بيته على الارض، في حيفا، وغادرهم عام الف وتسعمائة وخمسة واربعين، في خميس الأسرار من اسبوع الآلام، الى أحضان رفيقه الاعلى.

أيُّها الثَّائر العربيُّ الأمميُّ، أجد الآن نفسي واقفًا أمامك ايها الحاضرفي ذاكرتنا و الغائب عن أعيُننا، كنتُ أنظر إلى عينيك فأرى صورة صديقك المناضل داود تركي، وأعرف كيف كانت تلازمكما المواقف الصَّعبة وشظَف العيش والمحن الشَّديدة التي لم تثقل كاهلكما قط، فقد كنتما تخرجان منها اشدَّاء متفائلَين متزوِّدَين برباطة جأش وإصرار، لا يعرف اليأس طريقه اليكما فظلَّ ضالًا وضلَّ طريقَه إليكما بين السَّراب، كنتما دومًا طوع راحَتي الوطن والارض والانسان، واسمح لي في غياب حضرتك، وحضورك يا رفيقي، إن ذَرفَت عينايَ “دمعتين ووردة”، الأولى عليكما، حيث لم تتركه ابدًا في حالكِ أيَّامه، خاصَّةً في غربته على تراب وطنه، والثَّانية لروح والديكما، جدِّي ووالدك، ووردةً حمراءَ قانيةً من بساتين غرناطة، أندلسنا، أضعها على صدرك التَّقيِّ ولفكرك النَّقيِّ ولفؤادك العفيِّ، يا أيُّها الثَّائر العربيُّ الأمميُّ.

فمن أيّة طينة جُبِلتَ يا رفيقي، كما باقي رفاقك، ومن أيِّ ماء شربتم، ومن أيِّ نبع نهلتم، حتَّى خرجت هذه الخلطة المقدَّسة من الطِّين الخصب والماء العذب في اليوم السَّادس دون أن تعرفوا ما معنى راحة اليوم السَّابع، يومَ يرتاح باقي البشر، من خلق الله، فقد واصلتم عملكم على مدار أيَّام الأسبوع السَّبعة، ما بين السُّهُبِ والشُّهُبِ لتبنوا لنا، للأجيال القادمة من بعدكم، بنيانًا متراصًّا ومُشيَّدًا وعميقًا في باطن الأرض تمتدّ جذوره إلى نواتها.

يقول المثل السلوفاكي: شرف العمل، أي العمل هو شرف، ويقول رفيقنا موسى ناصيف: انسان بلا عمل هو إنسان بدون قيمة!  

لقد خرجتم من هذه الطِّينة الحمراء رجالاً أشدَّاء وأقوياء وأشاوس، لا تعرفون أيَّ نوع من الكسل أو الكلل أو الملل، فقد نُفِحت فيكم روح العمل والمثابرة والكدِّ والجدِّ والتَّضحية والفداء، فخرجتم إلى الميدان ونمَوتم وتكاثرتم وملأتم الأرض بالرِّفاق، وأخضعتم الطَّاغوت دون خوف أو تردُّد وعملتم بتحدٍّ بطوليٍّ ونشاط دؤوب دون أن ترتاحوا يوم راحتكم في اليوم السَّابع، بل رحتم تتابعون مسيرتكم منشدين نشيدكم الصّاخب نشيد الأمميّة:

هُبُّوا نَمْحُو كُلَّ مَا مَرَّ هُبُّوا حَطِّمُوا القُيُود

وَابْنُوا الكَوْنَ جَدِيدًا حُرًّا وَكُونُوا أَنْتُمُ الوُجُود

ثمانون عامًا مرَّ على عضويَّته في الحزب الشّيوعي مناضلاً إلى آخر نبضٍ في عروقه، ثمانون حولاً من الكفاح والنِّضال والمثابرة من أجل رفاهية شعبه وحقِّه في التَّحرُّر وحق الطَّبقة العاملة في البلاد في العيش الحرِّ الكريم والعزيز..

ثمانون حولاً غائبٌ عن وطنه لبنان وثمانون حولاً حاضرٌ في وطنه فلسطين، لقد كانت عيناك عينين لوجه واحد، بلاد الشَّام، وجناحين لصقر واحد، هو صقر الشَّام.

ثمانون ربيعًا متضامنٌ مع الشُّعوب المُتعبة من نير الاحتلال والمسحوقة من الاستغلال الطّبقي..

ثمانون أيَّارًا وقلبه مع كوبا وفيتنام وفنزويلا والصِّين وأمريكا اللاتينيَّة..

ثمانون اكتوبرًا ثائرٌ في بلادنا مع رفاقه في الحزب الشّيوعي لنصرة الطَّبقة العاملة وشعبه الرّازح تحت الاحتلال، سبعةٌ وستّون عامًا تكمِّلُ طفولة ثوريَّة متمرِّدة على كلِّ ظواهر الظُّلم الجائر والعنف القاهر منذ ولادته في عين إبل، تسعة عقود أو يزيد من التَّفاني والعمل الدَّؤوب والمثابر الذي يبعث الأمل فيك ويشدُّ من عزمك ويشدُّ وزرك وظهرك..

ارتح في راحتك الأبديَّة، بعد أن ترجَّلتَ عن صهوةِ عزِّك على الأرضلتمتطيها في محلِّ إقامتك الجديد..

وأرقد بسلام حيث الأحرار والأبرار والثُّوَّار..

رحلتَ بعد أن أطمأنَّ قلبك، من نصر الشَّام على أعدائها، وانقُل أخبار هذا النَّصر لرفاقك في جنَّة الأبطال الصَّناديد..

سلِّملي عليه، وبوِّسلي عينيه..

ونقول لكممنمشي ومنكفِّي الطَّريق..  

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*