ستّي تتفلسف! (قصّة) – سعيد نفاع

 

أستطيع وأنا مرتاح الضمير أن أشهد شهادة لا مكلومة ولا مثلومة، إن ستّي “نُوّارة” أسكنها الله فسيح جنّاته، وعلى ذمّتي لا بدّ قد فعل، كانت ولا كلّ الستّات. ولا يتّهمنّي متّهِمٌ إني أقول ذلك لأنها ستّي، فأهل البلد، جلّهم إن لم يكن كلّهم، يصادقون على ذلك وعن طيب خاطر.  

كانت جميلة بكلّ المواصفات رغم سنيّ العمر الطويلة والتجاعيد الكثيرة التي غزت وجهها، ظلّ في وجهها رونق حسدتها عليه النساء من مجايلاتها ممّا كان يُفرح سيدي، ويشتهيه الرّجال مجايلينها ورغم أنه كان من المشكوك أن تبقّى فيهم من الفحولة شيء وما كان بقيللشهوانيّ منهم إلا أن يتمنّى إبراهيم الخليل فيه، ممّا كان يغيض سيدي.

لم تكُن ستّي محايدة في كلّ ما يجري في البلد ولها فيه قول تطلقه غير هيّابة، لا تهاب وهرة الرّجال ولا فتاوى الشيوخحول النساء لا بل أولئك كانوا محطّ سخطها. وليس لأن سيدي لم يكن صاحب وهرة و-“محكوم امرأته” فهو الآخر مشهود له إنه كان مهابا.

في ثورة الستّة وثلاثين وعينيّا في موقعة الليّات على طريق عكا صفد، والتي كان أكل فيها سيدي رصاصة بينفخذيه أصابت خصيتيه، والله كان قد ستر إذ فقد فقط إحدى خصيتيه وبلغة أهل بلدنا صار “قلّوطا. اعتقد هو واعتقدت ستّي بداية وإن لم يفصحا، أن في ذلك ذهاب لياليهما الملاح، وهكذا اعتقد الناس بين حاسد مفصح ومحبّ صامت. لكن ما أعاد رمضاء الحاسد إلى صدره وأطلق المحبَّ الصامتَ من صمته، هو انتفاخ بطن ستّي بعد أشهر قليلة من الشفاء وانتفاخه مرّات بعدها، ولولا ذلك لما كنت أكتب لكم هذه القصّة.      

لا يستطيع أحد أن يدّعي أنّ هذا كان فقط مردود الثورة على ستّي، فستّي غيّرت الكثير من نظرتها تجاه كثير من أبناء البلد وخصوصا شيوخ بعض العائلات الذين توانوا عن تلبية نداء الثوّار في الموقعة بعد أن أطبقت عليهم قوّات الانجليز، وتبيّن لها أن ليس كلّ من لبس العباءة وقصّبها وميّل عْقالُه فوق الحطّة الروزة، قدْها.

لم تكن ستّي تبخل علينا في حكاياتها، لا تلك التي من بنات خيال رواة ولا تلك التي عايشتها، ولثورة الستّة وثلاثين والخونة وضياع خصية سيدي كان حصّة ترويها بدقائقها مع بعض تحفّظ طفيف يحتّمه وقارها وجيلنا. غير إن الملفت كان دعاؤها كلّما أنهت حديثا يخصّ الثورة على قليلي النخوة ومنهم الشيخ “مِتعب” المعروف في بلدنا حتّى لنا نحن الصغار حينها، بالعباءة البنيّة المقلّمة بخطوط ذهبيّة عند حوافها واختلاف حطّته وعقاله عن حطّات وعقْل أهل بلدنا، دعاؤها: “الله يقلّل من بكّاياتهم“.

لا أستطيع أن أدّعي إنّي كنت فهمت دُعاءها هذا، وكنت أعتبره جزءا من الحكاية وأكثر ما فيه ردّ على ما أصاب سيدي وغيره في المعركة وأصاب البلاد. لكن ما وراء الدُعاءأخذ منّي الكثير من سنّي طفولتي حتّى فهمته وإن ظلّ حبيس فهمي إلى أن حلّ على بلدنا يوم رحل فيه الشيخ متعب فجأة وقبل الأوان المُفترض جيلا.

كانت عادة أهل البلد وما زالت أن يتشاركوا الأتراح والأفراح بغضّ النظر عن العلاقة بصاحب الترح أو الفرح. رأيت ستّىوقد جهّزت نفسها للمشاركة بلباس التّمام والكمال، متجهمّة الوجه ولا أستطيع القول حزينته، وسمعتها تقول وهي تغادر الباب وكأنها تخاطب نفسها: “إنّا لله وإنّا إليه لراجعون ولا حول ولا قوّة إلا بالله الله يرحمه في أعماله”.

حتّى هذه ال- “الله يرحمه في أعماله” أثارت فيّ تساؤلا لم تفعله سابقا رغم إني كنت سمعتها كثيرا دون أن تلفت نظري، ورغم إن الغالب أن يدعو الناس لميْت بدعاء؛ “الله يرحمه”، ولا أعرف ما الذي جعلني ذلك اليوم أتساءل عن الفرق بعد أن قالتها ستّي، خصوصا وكنت أعرف من خلال رواياتها عن الثورة أنه كان لها موقف سلبيّ من الشيخ مِتعب، فقرّرت أن أسألها في أول فرصة لا بل بعد عودتها من المأتم مباشرة.

صار للشيخ “أجر” كبيرا شارك فيه أهل البلد وكثير من الأغراب، وما غريب إلّا الشيطان، من القرى الجارة، وحتّى بعض الخواجات وألقيت طبعا الكثير من مراثي الكانَ وكان. ولأن عندنا عيب على الرجال أن تبكي، فلم أشاهد أنا “فرخ الشاب” الذي دحشت نفسي بين الناس دموعا اللهم إلا اغريراق في بعض عيون. ولكن من المؤكّد أن دموعا كثيرة سُكبت بين النساء وما من شكّ حول كثرتهنّ أخذا بالحسبان كثرة المشيّعين من الرجال. لا أعرف إن كانت ستّي كذلك سكبت دموعا، وهي التي كما كنت استنتجت من حكاياتها أن الشيخ مشمول بين أولئك الذين دعت الله ألا يُكثِر من بكّاياتهم، وقبل أن أفهم ما معنى وما وراء دعائها ذاك.

ما كادت ستّي تقلع “مشّايتها” من قدميها وتلقح “شرشفها” عن رأسها حتّى بادرتها:

ستّاه…!
يا روح ستّك!
كان أجر الشيخ كبير…
نيّال اللي بكّاياتُه كْثار يا ستّي…

ليس فقط أن ستّي لم تُفاجأ من موضوع حديثي، لا بل أكثر،فلم تنهرني حين بادرتها الحديث عن مأتم الشيخ، وكمن لديه مخزون محبوس من كلام يريد أن يطلقه، تابعت:

الله يرحمه في أعماله!
أقلّك شيء
قول!
لا فاهم هاي ولا فاهم هذيك!
شو يعني؟
قولك الله يرحمُه في اعمالُه ونيّال اللي بكاياتُه كْثار.

ابتسمت ستّي، وقبل أن تردّ ولم أكن أعرف إن كانت تنوي،دخل سيدي فبادرته:

ردّ على ابن ابنك…!
ما لُهْ؟!
اسأل سيدك!

وقبل أن تنتظر أن أسأل سيدي، تابعت:

يسألني… شو يعني الله يرحمه في اعماله، ونيّال اللّي بكّاياتُه كْثار

ابتسم وأجاب:

الولد كِبر… الله يرحمُه في اعمالُه عليّ… والبكّاياتعليكي.

أخذ جدّي نفسا وكأنه يفتّش من أين أو كيف يبدأ، وقال:

“الله يرحمه” يعني انت ترجو الله الرحمة للفقيد…
هاي فاهمها…
طوّل بالك!
“الله يرحمُه في أعماله”… وصمت برهة، وتابع:

يعني انت ترجو من الله له الرحمة حسب أعمالُه لأنُه عندك عِلِم أو شك أنّ اعماله فيها وما فيها

يعني تشرّط على الله؟!
طبّق بوزك قالها باسما… وتابع:
استغفرّ الله العظيم. ومتوجّها إلى ستّي مفتّشا عن مهرب:
ولك يا نوّارة الحق مع الولد!

ضحكت ستّي وكمن استنتجت أن موضوع “الله يرحمُه في اعمالُه” أقفل خوفا من إغضاب الله، وقد جاء دورها حسب الاتفاق الشفهي مع سيدي، قالت:

عندنا مثل يا ستّي بقول… نيّال اللي بكّاياته كْثاروالمعنى إنُّه الميّت اللي يكثروا الباكيين عليه معناه إنُّه يستاهل وهو فُقدة لأهلُه وللناس…
طيّب…
الناس تعتبر موت الإنسان كشّاف… كل ما كِبِر أجره دليل على إنه كان صالح… بَسْ هذا غير صحيح والناس الطيبة تعرف تفرّق حتّى لو ما حكت دايما… فياما ماتت أوادم فًقرا وما لاقت مين يبكيهم غير أهاليهم
وبعدين؟
طوّل بالك!
 
قالت الناس المثل بَسْ المعنى بالمقلوب وقالته في الأحياء… كُثر البكّايات ما يعمل من اللي ما يستاهل لا عند الله ولا عند البشر مستاهل… وصاروا يقولوه عند ما كثرة المدّاحين تعمل للّي ما يستاهل قيمة وفي الغالب ما يستحقها… ولكن لأنه عندُه سطوة سلطة واللّا جاه واللّا مال… وكلّ ما صارت الناس منافقة أكثر كلّ ما كان للمثل بمعناه المقلوب محلّ…
فلسفة هاي ستّي…
شو ولَهْ… فلفلسة؟!

انتهى الحوار، إن صحّ إن ما كان بيننا حوارا عند هذا الحد، وعندما اتهمت ستّي بالفلسفة لم أكن أفهم من الفلسفة إلا كناية عن كلام غير مفهوم. راحت أيام وجاءت أيام وكبُرت ومع كلّ “أجر” كانت ستّي تحضرني وفهمت إن أصل “نيّال” العاميّة هذه “هنيئا له، وعرفت أن كل ما قالت ستّي كان صحيحا فلسفيّا وفيه بلاغة لغويّة أيضا، تتفلسف كانت أو تتفلفس!

سعيد نفّاع \ كانون ثاني 2019  

           

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*