“أطفال النّدى” – د. خالد تركي

                                                               

“أطفال النّدى” هي الرّواية الأولى للكاتب الفلسطينيّ، ابن أمّ الزّينات، قضاء حيفا، والمُقيم حاليًّا في الكويت، محمّد الأسعد.    

صدرت الرّواية عن دار الرَّيِّس للكُتُب والنّشر، لندن، شهر أيلول عام ألف وتسعمائة وتسعين، وقد تُرجمت هذه الرّواية إلى عدّة لغات منها الفرنسيّة والبرتغاليّة واليونانيّة والعبريّة.

لقد اختار مُترجم الرّواية إلى اللغة الفرنسيّة اسمًا آخر لها هو ” ذكريات قرية فلسطينيّة مندثرة” وذلك لجذب انتباه القرّاء الفرنسييّن إلى معاناة شعبنا في اللجوء.

وحين سألت أحبّائي، أبناء أمّ الزّينات في حيفا، أبو وائل إبراهيم وأبو محمّد غازي، إبنيّ المرحوم محمّد إبراهيم فحماوي وأبو حسن دياب بشر رحمة الله عليه عن الكاتب عَرَفُوه وعَرَّفُوه باسمه الرّباعي إنّه محمّد إسماعيل أسعد الحردان.

وُلِد الكاتب قبل النّكبة بأربع سنوات، زمن الحصاد كما تقول والدته، حيث كان الوقت صيفًا، وتضيف أنّ الانكليز لم يتركوا في البيت لا زيتًا ولا قمحًا إلاّ وخلطوه بالشّيد وطاردوا الدّجاج ومعسوا رؤوسه بالشّيد، وتعرف أنّ الثّوّار كانوا يُخطِئون، وأنّ الخيانة كانت منتشرة مثل الرّائحة72).

يقول الرّوائي محمّد الأسعد في لقاء معه أجرته صحيفة “دي نوتكياس” البرتغاليّة (12 تشرين الثّاني 2005): لقد سيّسوا معاناتنا الإنسانيّة، وأخذوا القضيّة إلى الواجهة وتركونا خلفها في الضّباب. بل وتجاهل حتّى أكثر ممثّلينا السياسيين وكتّابنا المشهورين وأكثر شعرائنا بكاءً، تجربتنا المؤثّرة، أي قدّمونا إلى العالم كفكرة مجرّدة وليس كتجربة بشر من لحم ودم. وفقط حين قرأت كتابًا لكاتب

فلسطيني بدأت أسأل: أين أهلي وأهل أصدقائي، أعني الفلاحين الفلسطينييّن؟

ففي الوقت الذي عرض فيه ذلك الكتاب المسمّى “قبل شتاتهم” لوليد الخالدي، صورًا عديدة لعائلة المؤلِّف وأبناء العائلات المحظوظة، لم يصوَّر أحدًا من “المجهولين” من الأغلبيّة، أو يتحدّث عنهم، أعني فلاحي فلسطين.

لذلك وحسب اعتقادي وجد الكاتب نفسه أمام تحدٍ كبيرٍ يحثّه على كتابة تاريخ

قريته والتي تُعتبر نموذجًا لجميع قرانا الفلسطينيّة التي احتُلّت وشُرِّد أهلها إلى خارج الوطن وداخله، حيث يذكر أنّ القرية قد سقطت في الخامس عشر من شهر أيّار من العام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين بعد أن احتلّتها الكتيبة الرّابعة من لواء غولاني في عملية سُميَت “ביעור החמץ” أي اجتثاث الخميرة، (وهي عبارة عن عملية تطهير عن طريق النّار بالحرْقِ أو الغليان لجميع أواني البيت وأثاثه وأطراف البيت وتنظيف كلّ ما هو شائب أو مُخمّر حتّى يكون البيت نظيفًا). وهكذا أرادوا لأمّ الزّينات ومنطقة جبل الكرمل، كما أرادوا لباقي الوطن أن يكون “حلالاً כשר و”طاهرًا” و “نظيفًا” من سكّانه الأصليين، أي خالصًا لهم، فوجود العرب فيه “يُدنِّسه حسب زعمهم- لذلك قاموا بعمليّة تطهير عرقي، قاموا بعملية اجتثاث الخميرة(العرب الفلسطينييّن) أهل هذه البلاد الأصليين، وأقاموا واقعهم الإستعماري.

لقد وجدْتُ شيئًا مُشتركًا بين روايته و”يومِيَّات بَرْهُوم البُلْشُفيّ” حيث ينقل لنا الكاتب الأحداث كما روتها له والدته – مع بعض تعليقات وتصحيحات والده  وبعض من أهل قريته ـ، في حين كان محدثي هو والدي أبو خالد وبعض من رفاقه، أترابه الذين عاصروا تلك الفترة. وكما تيتّم والده وهو في سن الثّانية عشرة،كذلك كان يُتْم والدي، زد على ذلك أنّ أحداث النّكبة والتّهجير والشّتات والبقاء في الوطن والهجيج خارجه هي نفسها.

لقد كان الصّحافي يوسف الغازي حلقة وصل بيننا عن طريق موقعه الإلكتروني

يوميات انهزامي بعد أن قرأ الكاتب محمّد الأسعد الحلقة الثّانية عشرة من كتابي “يومِيَّات بَرْهُوم البُلْشُفيّ” في الموقع، الخاصّة بسقوط حيفا، أرسلت لأخي محمّد كتابي وبالمقابل أرسل لي كتابين، روايته “أطفال النّدى” ورواية “شجرة

المسرّات” المنشورة في العام 2004.

تحثنا ” أطفال الندى” على كتابة ذكريات كبارنا وتجميعها، ويتساءل الكاتب من خلالها: وهل تكفي ذاكرة واحدة لاستعادة ملايين التّفاصيل؟46).

تبدأ الرّواية بتحديد الموقع الجغرافي لأمّ الزّينات، حدودها وجبالها وأوديتها وآبارها وأشجارها على أنواعها والقرى المحيطة بها والشّخصيّات التي تركت بصماتها على هذا التاريخ.

وفي سنة النّكبة تختلط ذكريات الكاتب الضّبابيّة، ذكريات ابن الأربع سنوات، حين كان يسير محمولاً على كتف شخصٍ ما،وأمّه في مرج واسع لا يدري إلى أين ولماذا؟

وتُحدّثه والدته، عمّا يتنبّأ به الشّيخ حمزة الذي درس في الأزهر، لكنه لم يرجع بشهادة تخرّج بل رجع برزمة من الكتب الدراسيّة الدّينيّة، ولا يعرف أهل البلد إن كان قد حصل على الشّهادة أم لا. كان الشيخ يقرأ الطّالع ويعرف بواطن الأمور،فكان مرجعيّة لأهل القرية، وكان قارئا للكتب وعالم الغيب،يخبرهم عن انتصار اسرائيل الى حين ثم تنقلب الآية وتنهزم إلى غير رجعة. فيقول لهم: ألا ترون أنّ وادي الملح صار غابة؟ لم تكونوا تصدّقون ما أقول. والآن أعلم أنّ العرب سينتصرون. وسيضعون يدهم بيد الموسكوف 12). وفي مكان آخر يقول للاجئين: ولن تعودوا إلا إذا وضع العرب يدهم بيد الموسكوف31). لكنّه قال لهم: ستعودون بعد سبع أو سبع أو سبع.. والله أعلم58).

واختفى الشّيخ حمزة في مكان لا يعرفه أحد بعد تلك الليلة، لكن الحاج القطروز

يفسّرها بأنّها سبع سنوات عجاف أو سبع وأربعون أو سبع وسبعون..والله أعلم

58). وطبعًا لا يعرف أحد معنى وتوقيت السّبعة المقصودة.

تحدّثه والدته عن “الدّعم” العربي وكيف كانت الإمدادات للحركات الصّهيونيّة تصل من الغرب إلى الدول العربيّة المجاورة، كمحطّة لتخطيط الدّخول إلى فلسطين، وكيف أنّه كانت هناك دعوة للمقاومين من الجيوش العربيّة للمشاركة في القتال، وعندما تنفّس المقاومون الصّعداء وارتاحوا لإخوانهمالذين تسلّموا المواقع، طلبوا من الثّوار تسليم أسلحتهم ليُقاتلوا عنهم، لكنهم بعد أن تسلموا سلاح الثّوّار نقلوهم إلى الأسر العربيّ، وقد تركوا جثث الثّوّار في مواقع القتال والدّفاع لدرجة أنّ والده ظل يعتقد بعد عشر أو عشرين سنة أنّ الضّباع ما زالت تأكل جثثهم:” لا يبدو أنّ أحدًا أدرك لهم وجودًا22). وفي مكان آخر يقول: أنحن أصحاب أحزاب وتحزّبات وما زالت الضِّباع تأكل جثث رجالنا؟ ويبدو لي هذا التّعبير بليغًا أو شبيهًا بحكمة تُقال لترسم حياة كاملة. وما بعد هذه الحكمة هو الصّمت..الصّمت إلى الأبد46).

وتبقى قضيّة اللجوء هي مشكلة اللاجئين. فحين لجأوا إلى جنين كانت بساتين اللوز بيوتهم ،والسّماء والمطر وأوراق الشّجر غطاءهم. وتأتي صاحبة الكرم لأخذ الثّمر “بدون أن تقول خذي هذه لبناتك”، وحين أرادت إحدى النساء هناك عروسًا لابنها قالت لها جارتها: البنت جميلة.. ومؤدّبة.. ولكن يا خسارة! إنّها لاجئة34).

لقد لجأ أهل أمّ الزّينات إلى التّجمّعات السّكّانيّة المجاورة كالفريديس وطمرة وحيفا وجنين وتجاوزوا حدود الوطن الصّغير إلى الكبير. لكنّ هناك قريب للكاتب يسكن دالية الكرمل (زوج ابنة عمه) كان قد تعرّف عليه عن طريق الصّحافي يوسف الغازي وهو المناضل والرّفيق سليم فحماوي رحمه الله حيث ذهب مع الصّحافي إلى أنقاض قريته. يقول الكاتب في المقابلة إيّاها مع صحيفة “دي نوتكياس” البرتغاليّة: لم أرَ التّدمير بنفسي، ولكن قبل سنتين، أرسل لي قريب لنا لا زال يعيش في الدّالية، بالقرب من قريتنا، سليم الفحماوي وصديق اسرائيلي،يوسف الغازي، صورًا لهذا الخراب التقطت حديثًا، ورأيت قريتنا أو بقاياها لأوّل مرّة، الحجارة وأشجار الزّيتون والخرّوب والصّبّار والأزهار وشواهد القبور المتناثرة وشيئًا مؤثّرًا؛ أحجار أساس بيتنا.

تحدّثه والدته عن اليهود فتقول: أمّا يهود بلادنا فكانوا يتحسّرون ويقولون:إنّنا

نريدكم أن تبقوا، فنحن لا نحبّ هؤلاء الغرباء40).ويتابع: “فليتبنَ الشّيطانُ هذه الأسماء العجيبة “هرتسوغ” و”بيغن” و”بردوفسكي” و “لوين”.. فحتّى التّوراة لا تعرف هذه الأسماء..ولم يمرّ أصحابها في ذاكرة صخرة أو طريق من طرق بلادنا55). وكان والده يتاجر مع اليهود، متنقّلاً بين القرى يبيع الزّيت والنّفط والبيض، وكانت تُعيِّره زوجته بمتاجرته مع اليهود وبنزواته في حيفا.

كان أخوه ذكيًّا ويجيد الانكليزيّة، وكانت تربطه علاقة طيّبة مع صديق بريطانيّ، نصحه مرّة بترك البلاد والرّحيل إلى قبرص، لكن والده رفض الفكرة رفضًا قاطعًا، ولذلك بقي في الوطن. أما خاله المقاتل من أم الزينات، فحين بدأت الحرب وسقطت أم الزّينات توجّه إلى صديق بريطانيّ يدعى السيد جلهار ووجد أمامه الحقيقة المُرّة: هذه قضيّة أكبر منك..قضيّة دول. لقد اتّفقوا على كلّ شيء ولم يبقَ أمامك إلاّ أن ترحل26)..كلّ شيء انتهى. لقد باعتكم الدّول الكبرى. هي أشياء لن تفهمها الآن، ولكن عليك أن تمضي98). لكنّ خاله لم يستسلم فرجع لقريته عن طريق دالية الكرمل ليُدافع عنها، هو الذي خاض قبل ذلك ضد البريطانيين معركة أم الدرج إبان الثورة الفلسطينية الكبرى في العام 1936، وظل يواصل القتال.

احتلّت إسرائيل ما أصبح يسمى الضفة الغربية والجولان وسيناء، واستدعت قواتها خاله، وخلال التّحقيق رفض أن يبيعهم أرضه في أمّ الزّينات بعد أن “سامحوه” على ماضيه بقولهم: نحن نعرفك جيّدًا..ولكن دعنا من الماضي..لديك أرض في أمّ الزّينات ونريد أن ندفع لك ثمنها75).

استشهد خاله وعمّه وأخوه في معارك الدّفاع عن الوطن واعتقل والده لأنّه لم يدل قوّات الاحتلال على مخابئ الثّوّار.

سُمّيت الرّواية “أطفال النّدى”، لأنّ الأطفال أبرياء جدًّا وهم بداية الحياة، وكانت نكبة فلسطين وعمره نديّ من عمر النّدى، وحين كان هجيج الأهل إلى ما وراء أمّ الزّينات كان جنود الاحتلال يتربّصون بالمهجّرين لقتلهم عند آبار المياه، لذلك قال لهم والدهم: “اتبعوني فأنا أعرف الطّريق”. ويتابع الكاتب “لقد ضلّ الكثيرون طريقهم واصطدموا بكمائن يهوديّة متربّصة عند آبار المياه، ومنعطفات الطّرق المعروفة. وقد اختار الوالد طريقالا ماء فيه سوى النّدى92). وبقوا على قيد الحياة بفضل النّدى. لقد حفظ النّدى لهم حياتهم وكان النّدى ماءهم وراوي ظمأهم وحافظ على حياتهم لأنه يخرج من الماء كلّ شيء حيّ. والنّدى يحمي عيوننا من شوك الصّبّار صباحًا على أن يحمي عيون شعبنا من باقي الأشواك.

ويبعث النّدى الأملَ بعودة أطفاله إلى قريتهم أمّ الزّينات..

ويبعث بسملة النّهار النديّ ليمحو الليل الدّامس والحالك.

وأطفال النّدى هم الجيل العائد وجيل المستقبل وسكينة الأهل وزينة الحياة الدّنيا.

 

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*