التعليم العربي: بين برج بابل وبرج بيزا جواد بولس –

ُأُعلنت مؤخر ا نتائج الامتحان الدولي لتقييم الطلبة الثانويين،المعروف عالميًا باسم “بيزا”، وظهر، مرة أخرى، تدنّي مستوىالتحصيل العلمي للطلاب في المدارس العربية، قياسًا بالمدارساليهودية؛ كما وأثبتت النتائج وجود تراجع في مستوى تحصيلهم،بالمقارنة مع تحصيلهم في السنوات السابقة.

حظي الخبر ، كما كان متوقعًا، بنفس ردود الأفعال التقليدية التينسمعها ونشاهدها في مثل هذه الحالات المحرجة؛ فالمحافلالواسعة والمؤسسات العامة الناشطة بين المواطنين العرب فياسرائيل، عاشت يومها بشكل طبيعي وكأنّ الخبر لا يعنيها ولايتعلق بمصائر أولادها وبمستقبلهم؛ بينما سارعت، في المقابل،بعض الجهات القريبة من موضوع التربية والتعليم إلى ترحيلالمشكلة بشكل أوتوماتيكي والى تحميل المسؤولية عنها للحكوماتالاسرائيلية المتعاقبة، التي سعت، بسياساتها العنصرية، لخلقهذه الفجوة، وما زالت تسعى للابقاء عليها؛ فالتمييز الحكوميالمتعمّد في رصد الميزانيات واهمال قطاع التعليم عند العرب أدّياالى هذا التخلف وإلى تجفيف عقول طلابنا وانحرافاتها. أمّا وزارةالتربية الاسرائيلية، ومعها بعض المسؤولين الحكوميين الكبار،فعبروا بدورهم عن عدم رضاهم من النتائج التي فاجأتهم، كماصرحوا، لانهم قاموا برصد ميزانيات ضخمة، على حد تعبيرهم،في سبيل تحسين ظروف سلك التعليم العربي ورفع مستوىالتربية في المدارس العربية؛ أو كما أعلن، على سبيل المثال، وزيرالتربية والتعليم ، رافي بيرتس حين قال: “بالنسبة للوضع فيالمجتمع العربي فإنّ الامر يلزمنا بإجراء فحص عميق وجذري. لقداستثمرت وزارة التربية  الكثير من الموارد والميزانيات في المجتمعالعربي، وهذه المعطيات لا تتلاءم مع حجم الاستثمار” ! 

لقد خلص الفرقاء، رغم الاختلافات العميقة بينهم، إلى ضرورةتشكيل لجنة فحص/ تحقيق خاصة بهذا الموضوع كي تدرسالوضع على حقيقته وتقف على أسباب ذلك التخلف والفشل.

لن يختلف اثنان على أن النتائج المعلنة تعكس واقعًا تربويًا محليًامريضًا؛ فنحن، المواطنين العرب، نعيش تبعات ذلك التقهقر وندفعأثمانه الباهظة في حياتنا اليومية؛ فمع نشوء أجيال جديدة منالجهلة والمشوهين تربويًا تتضرر هوياتنا الجامعة وتعيشمجتمعاتنا حالة من الانكسارات الذاتية والتشتت، وكذلك تضربمناعاتنا السياسية والاجتماعية، فيشيع الخوف وتهرم روح الانتماءالسليمة وتقصر الطرق إلى عوالم العنف والجريمة وتنتشر الرذائلوالمخدرات.

لا اختلف مع من يروا بجميع الحكومات الاسرائيلية عنوانًا لهذهالقضية/ المأساة، لكنني، مع ذلك، أرفض أن نكتفي بهذاالتشخيص وأن نبريء أنفسنا مما يحصل لنا وبيننا؛ فأنا وأترابيتعلمنا، قبل خمسين عامًا، في مدارس متواضعة جدا لم تعرفساحاتها إلا الغبار في الصيف والوحل في الشتاء؛ لم نملكسيارات ولا درّاجات ولا هواتف خليوية. كانت غرف تدريسنا عاريةمن جميع كماليات هذا العصر، لكنها كانت ملآى بأنفاس معلمينآمنوا بقدسية رسالتهم وبمسؤوليتهم لبناء أجيال صُبّت أرواحهافي قوالب من الكرامة الوطنية ودُجّجت بالثقة وبالتوق للمعرفةوبالرغبة الانسانية الفطرية لاكتساب العلم وللمضي نحو شقصدور المستقبل والانطلاق حيث لا يوجد مستحيل.

لقد كنا أولاد حاراتنا وحماة بلداتنا حيث لم يفرقنا جامع ولا خطبةشيخ ولم تبعدنا كنيسة ولا عظة كاهن. لقد كانت أفراحنا صغيرةوبسيطة لكنها كانت مواسم عز وبهجة، بينما كانت اتراحنا غصاتتجمع وتؤلف.

كان المال وسيلة ضرورية للحياة وللفرح الطييعي القنوع، لكنه لميتحول ابداً إلى حالة من “الهوس” أو الى خناجر تقتل الطيبةوتغتال المروءة في نفوسنا.

تعلّمنا ونير الحكم العسكري البغيض جاثم على عقولنا؛ لأناسرائيل الفتية أتقنت،كما تتقن اليوم، الشراسة وباقي فنونالعنصرية.

بقي أباؤنا في الوطن فخذلوا حلم الصهاينة الأوائل. خطط قادةاسرائيل لرحيل من عصا أوامر السيف ولم يرضَ الخيانة؛  أماالذين رفضوا وبقوا، فليعيشوا كعبيد في حضن الأسياد أوكسيقان قصب كسيحة وسقاة في مزارع العنجهية والقمع.

كبرنا كقصائد مزروعة في السماء ونشأنا، رغم الشحة والشقاءوهجر “الأشقاء” ومزايداتهم، أحرارًا نعرف كيف نحمي فراشاتنامن لسعات البرد، وكيف نصلّي للورد كي يزهر أحمر وكيف يذكّرنابخدود نحلاتنا فنسكر. 

لماذا تتذرعون اذن وتحتمون مع كل هزيمة بظل ذلك الشبح البعيدالقريب؟ ولماذا تتنصلون من الفشل وتتهربون من عجزكم وتبكونعلى دم غد وئيد؟ فجميعنا نعرف كم كانت وما زالت اسرائيل ظالمةوعنصرية ومقيتة، لكنها، رغم كل ذلك، فشلت في تبديد إصرارناوفي تحويلنا إلى فتات من ريح؛ فكبرنا، أوفياء لوصية الصبروالسرو والطين، وركضنا حفاة نحو الشمس، وقفزنا بين زخاتالجراد كعنادل على بيادر الأجداد.

لم تحبّنا اسرائيل في يوم من الأيام وحين أبكتنا سقينا كرومنابالدمع وبتناهيد الأمهات الكادحات.

لم نهزم إلا عندما تخلينا عن وصية الأباء الذين تخرجوا منمدارس العزة والقهر وخرجوا نبهاء من شرايين النكبة وفهمواوأفهمونا أن بالعلم وباحترام العقل يصمد الانسان ويسعد.

كم تغويني خدعة الاستطراد، لكنني على قناعة أنّ مشكلتنا لمتبدأ بنشر نتائج امتحانات “بيزا” ولا بدلائلها ولا بما تنذر منه أوتفضي اليه؛ فمصيبتنا كبيرة ولا أرى لها في الأفق حلاً ولا مخرجاًوشيكاً؛ ولا أعرف، أصلًا، من قادر عندنا ومن معنيّ بفحصهابأمانة وباستقامة وبمهنية لا تدين للجبن ولا للرياء، وبعدهافلنسعى إلى الحرب والقتال.

لم أكن، في الحقيقة، على دراية بتفاصيل وبتاريخ امتحان “البيزا” المذكور، الا ان تداعيات نشر نتائجه الأخيرة شدّتني . مع كثيرمن الحذر، أعلن انني غير متأكد من كونه وسيلة تقييم بريئةوملائمة لأوضاع طلابنا ومدارسنا ونظام تعليمنا الحالي. 

لقد بدأت فكرته كمشروع استجلائي بادرت اليه بعض الدول، مثلاستراليا، بهدف فحص قضية ” تنوّر” الطلاب، ابناء الخامسةعشرة،  في ثلاثة مجالات تعليمية: التنوّر القرائي (في لغة الأم) والتنور في موضوع الرياضيات وأخيرًا، التنور في العلوم. كانالهدف من فحص مسألة التنوّر هذه، التي تحتاج بحد ذاتها الىمزيد من التوضيح والشرح في حالتنا، الكشف عما اكتسبهالطلاب من مهارات معرفية سيحتاجونها في حياتهم عندما يبلغونسن الرشد.

لن اسهب فالتفاصيل كثيرة؛ لكنني على قناعة بأن السواد الأعظممن المواطنين العرب لا يعرفون شيئًا عن هذا الامتحان ولا عنتاريخه منذ اطلق قبل زهاء عقدين، أو من أشرف ويشرف عليه،وما هي أهدافه وكيف ومن يعمل على تطبيق خلاصاته، وما الىذلك من أسئلة تضعنا أمام تساؤل جوهري حول غاياته المنشودةومدى مطابقتها لأجهزتنا التربوية والتعليمية المحلية. فالسؤالالمركزي يبقى، برأيي، هل وكيف تفيدنا هذه التجربة، ومن هوالمكلف باستقصاء نتائجها ومتابعة مخرجاتها خاصة ونحن نقرأعن اتساع الفجوة، من عام الى عام ، بين الطلاب العرب والطلاباليهود وباقي طلاب الدول المشاركة في التجربة.

لسنا بحاجة إلى روما ولا الى قيصرها، ولا إلى “كاميرا” جديدةكي تصوّر لنا أوضاع البؤس في مدارسنا وكي تذكرنا بسقوطالخيمة وبانتحار العقل؛ لأننا ببساطة نحصد ما نزرع، فالعربالحكيمة حذرت جميع الغارقين في دماء الحياة وفي طيّباتها أنهم”هوسى والزمان أهوس”، وأهل الكهف لم يسمعوا اصلًا ببيزا ولاببرجها المائل. 

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*