بين ترامب وفيلم: “الباباوان” – جواد بولس


لم أتوقع عندما اخترت مشاهدة فيلم “البابوان” كم سيكون تأثيره شديدًا علي.

لست ناقد أفلام ولن أكون؛ لكنني أنصح مَن ما زالوا يعشقون هذا الفن أنيذهبوا لمشاهدته، وأن يصغوا جيدًا للحوارات التي دارت بين بطليه، الممثّلينالقديرين: انتوني هوبكنز وجوناثان برايس. 

تستعرض أحداث الفيلم، بشفافية لافتة، جملة من السجالات والجدالات التيعصفت بالكنيسة الكاثوليكية بعد وفاة البابا يوحنا بولس الثاني عام 2005 ،وبعد انتخاب الكاردينال المحافظ والمتزمت كنسيًا، جوزف راتسينجر ، خلفًا له،ليصبح فيما يلي البابا بنيديكتوس السادس عشر.

كان فوز البابا بنيديكتوس على منافسه، الكاردينال الارجنتيني خورخيبرغوليو، المعروف ببساطته وباعتداله وبابتعاده عن الطقسية المتزمتة، بفارقصوتين فقط؛ حيث كشفت هذه النتيجة، عمليًا، عن وجود أزمة جدية داخل أروقةالفاتيكان، واثبتت لمن لم يقرّ بذلك على أنّ مفهوم المسيحية، كنسيًا وايمانيًا،حتى بين قادة تلك الكنيسة وبين أتباعها ، متفاوت بدرجات كبيرة، قد تصلأحيانًا حد النقيض إلى النقيض.

تستحضر احداث الفيلم محطات هامة من التاريخ ودور “بطلي” الفيلم فيها ؛ ففي السبعينيات من القرن المنصرم حكمت الأرجنتين طغمة عسكرية فاشية،لاحق قادتها الرهبنة اليسوعية التي كان يقف على رأسها الكاردينال برغوليو،والذي فشل، كما يعترف هو أمامنا، بالدفاع عن الشعب وعن زملائه الكهنة،فعاش نادمًا على قصوره ومعذبًا من ضميره الذي لم يغفر له ، ولذا فقد التقىالبابا بنديكتوس ليقدّم له استقالته.

ولقد تناقش الرجلان حول مفهوم الخطيئة والغفران، وحول مكانة الكنيسةوعلاقاتها مع الناس والحكام والبسطاء؛ وتحاورا حول معنى السعادة وجدارةافناء الذات، وحول الموسيقى والرقص والحب والغناء.

كان الحوار شيقًا لكن البابا بنديكتوس رفض في نهايته طلب استقالة زميله.

لم يقدّر ابن الارجنتين ما كان وقع تلك المحاورات على قلب وعقل رئيسه؛ الى أنفاجأه هذا الأخير حين أخبره بقرار اعتزاله البابوية وبتصميمه على دعمترشيحه هو ليصبح البابا الارجنتيني الأول.

تنتهي القصة باستقالة البابا بنديكتوس في بداية العام 2013 – وهو حدث لميسبق له مثيل إلا قبل ستمائة عام – وبانتخاب مطران البساطة والعفويةوالتواضع، الارجنتيني خورخي برغوليو، ليصبح فيما يلي البابا فرنسيس.

لم يحدث هذا إلا بعد ان سمعنا البابا بنديكتوس وهو يعترف بأنه أخطأ فعلاًحين غطى على أفعال زمرة من الكهنة الذين تورطوا في عمليات فساد وفيممارسة اعمال الفسق الجنسي خاصة مع الاطفال؛ وبعد أن عاد، كبابامستقيل، الى ممارسة حياته اليومية بانسانية طبيعية في الفاتيكان، كما ترينانهاية الفيلم.

لا غرابة على الاطلاق بأن أستعير رسائل فيلم سينمائي، شبه وثائقي، وأن ألجأإلى مَجازاته وأنا أكتب عن هموم فلسطين، خاصة بعد نشر وثيقة ترامب التياعتبرها بعض المغرضين انها نطقت باسم المسيحية، وهذه من ذلك كله براء؛فانا لا أكتب هنا دفاعًا عن المسيحية بل من أجل فلسطين ومستقبلها.    

لا مجال في هذه المقالة لوضع قائمة باسماء جميع الكنائس في العالم التيتدعم حقوق الفلسطينيين ويصلي كهنتها واتباعها من أجل ازالة الاحتلالالاسرائيلي؛ ويكفي ان يتابع القراء بهذا الخصوص تاريخ حاضرة الفاتيكان،وهي المؤسسة المسيحية الكبرى في العالم، كي يعرفوا الحقيقة ويعترفوا كماأتمنى، بأهمية تجنيد هذه الجهات لصالح القضية الفلسطينية.

قد تكون زيارة وفد المطارنة الكاثوليك المكوّن من أربعة وثلاثين مطرانًا لفلسطين،بالتزامن تقريبًا مع الاعلان عن وثيقة ترامب، مفارقة حصلت “بترتيب الهي” لتبعث في نفوس الفلسطينيين بعضًا من الأمل ولتظهر لهم آفاقًا يجبالاستثمار فيها؛ ليس فقط كتعويض عما خسرته فلسطين من مواقف تبناها ذووالقربى، بل لتنبيههم أيضًا بوجود عالم آخر  لم يعطَ حقه ولم نستفِد، نحن فيفلسطين، من تأثيره الايجابي والعملي كما يجب.

أصدر الوفد بعد زيارته بيانًا سياسيًا هامًا، أشار فيه الى ما شاهده اعضاؤهبأعينهم من ظلم ضد الفلسطينين الذين يعيشون في بؤس صارخ؛فحذروا منخطورة ضياع الأمل الفلسطيني وما قد يفضي اليه هذا الضياع من مآسٍوحروبات؛ ودعوا حكومات بلادهم وشعوبهم الى العمل من أجل تطبيق القانونالدولي وإلى السير على خطى الكرسي الرسولي في الاعتراف بدولة فلسطينورفض الدعم المادي والسياسي للمستوطنات الاسرائيلية.

ومن الجدير في هذا السياق الإشارة الى انه في العالم اليوم يوجد عدد كبيرمن الكنائس التي أعلنت عن مواقف متقدمة جدًا تجاه القضية الفلسطينية،فعلاوة على تضامن إكليروساتها ورعاياها مع المطالب الفلسطينية بالاستقلالوببناء الدولة، نادوا، كذلك، بضرورة الحجيج الى فلسطين وزيارة الاراضيالمحتلة ومشاهدة الظلم عينيًا، لا بل سنجد أن بعض تلك الكنائس قد بادرت الىسحب استثماراتها الماليه من صناديق شركات أو من مشاريع ثبُتت علاقاتهامع المستوطنات. 

لقد تضمّنت وثيقة ترامب عدة محاور ومواقف منحازة بشكل واضح وكامللصالح اسرائيل؛ فلم يقبلها الفلسطينيون، لا جملة ولا تفصيلا، وتحفظت منهادول عربية وانتقدتها جهات دولية عديدة وبعضها عارضها بشكل لافت.  

مواقف هذه الادارة كانت معروفة للجميع ودوافعها كذلك؛ فعلاوة على تطابقالمصالح السياسية والاقتصادية بين النظامين الأمريكي والاسرائيلي، كانتالمفاهيم الايمانية الدينية السائدة بين الاوساط الداعمة لترامب ومجموعتهعنصرًا هامًا في تجيير القرارات السياسية الأمريكية، بشكل غير مسبوق،لصالح الرؤى الاسرائيلية الدينية الغيبية والقومية المتطرفة، خاصة في كل مايتعلق بمسألة الحق الالهي المعطى للشعب اليهودي وسيادته الأبدية على ارضفلسطين.       

قد تكون هذه الجزئية من أبرز ما نضح من خطبة ترامب، فتأكيد الوثيقة علىأسبقية الحق اليهودي يعود لمرجعية ذلك الحق التوراتية أو الالهية وبهذا المعنىتكون الوثيقة، في الواقع، قد نقلتنا الى مرحلة جديدة أخضعت فيها الصراعالفلسطيني الاسرائيلي لقوانين الصراعات الدينية واستبعدت كونه صراعًاسياسيًا، قد يكون أحد أبعاده ذا أنساغ دينية وايمانية. 

لم يتأخر رد المنابر العربية الاسلامية على موقف الادارة الامريكية المذكور، فماأن  انجز ترامب “صفعته” حتى انبرى الخطباء في عواصم العرب بالتأكيدعلى ان أرض فلسطين هي وقفية اسلامية لا يفرّط فيها، ولا يتنازل عنها لأيكان؛ وهي، بهذا المعنى، حق اسلامي الهي لا يجاريه أي حق آخر .

لقد تطرقنا في الماضي الى الخطورة الكامنة في تبني هذا المنحى وحذرنامرارًا ان اصرار  بعض العرب على حصر النزاع ببعده الديني فقط وبكونهصراعًا بين حقين الهيّين مدَّعَين، سيضرّ بالمصلحة الوطنية الفلسطينية لأنهيعطي المتطرفين اليهود وحلفاءهم ذريعة لتحقيق مآربهم، خاصة في زمن تميلفيه موازين القوى العالمية لصالحهم، كما هو حال واقعنا في هذه الأيام.

ولقد انتبهت القيادات الوطنية الفلسطينية لهذه المسألة وأصرت، وما زالت تصرّ،على ان الصراع الفلسطيني الاسرائيلي هو صراع سياسي يقف فيه المعتدونوالظالمون من جميع الديانات في خندق واحد، بينما يقف احرار العالم ضدهمفي خندق واحد ايضًا. ورفضت وترفض القيادة الوطنية الفلسطينية مواجهةترامب وحلفائه بسبب مسيحيّته أو لكونه “صليبيًا”، كما ينعته الكثيرون؛ وذلكلان تبرير  عدائيته للفلسطينيين بهويته الدينية هو اجتهاد خاطيء وغير مجدٍ،ولأن المسيحيين في العالم، مثل جميع اتباع الديانات كلها، لهم مواقف سياسيةمختلفة؛ ولأنّ الكثيرين منهم يدعمون فلسطين وحق شعبها في العيش بكرامةبدولة حرة مستقلة.

ولنا في حياة الباباوين اعلاه، عبرات وعبر.

يتبع  …

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*