موت شيرين حياة لشعبها – فوز فرنسيس

إن صدف وشاركت في جنازة وتشييع شخص ما، فمن المفروض أقلّه باعتقادي أن تقتصر كلّ أحاسيسك ومشاعرك عادة على الحدث ذاته، تستذكر ذكريات كانت لك مع الفقيد إن كان لك كذلك أو أخبار سمعتها وعرفتها عنه، تحاول أن تعزي أسرته وأقاربه بكلمات تهوّن حزن الفقد والمصاب، تدمع عيناك دون استئذان، تتذكر رحيل أحبّة لك ويعلو منسوب الحزن.. يعتريك ألم وضيق وحزن، لكنك ترتاح لأنك شاركت في الوداع وألقيت ربما النظرة الأخيرة على الراحل أو الراحلة. لست فردا لذاتك تعيش منفردا، إنك بانتمائك لمجتمع ما كبر أم صغر .. تشعر بأن هناك حاجة لمشاركة أبناء مجتمعك أتراحهم ربما قبل أفراحهم، ومن هنا تبدأ انسانيتك وأخلاقيات التعامل مع من حولك. هذا ما لم أدرسه لا في علم الاجتماع ولا في الجامعات وإنما شهدته في تصرفات الأهل والأجداد وانتقل بالفطرة لنا. جنازة الصحفية ابنة القدس شيرين أبو عاقلة رحمها الله وتغمّدها برحمته، كانت جنازة مهيبة لم أشهد مثلها كثيرا، جنازة امتدت لأيام وطاف الجثمان من بلد لآخر ليلقي عليها أكبر عدد من المعارف والناس النظرة الأخيرة، جنازة رسمية في رام الله وجنازة شعبية في القدس بحضور الآلاف. هذا وحده كافٍ ليعلي شأن شيرين أمام من حاولوا تقليل أهميتها ودورها، هذا وحده يجعلك تتأمل وتفكّر بهذه الشخصية وعظمتها وتتأثر وتشارك الآخرين الحزن والأسى، هذا وحده لمّ شمل أبناء الشعب الواحد. كل هذا لأن انسانية شيرين، حبها للناس وعطاءها لهم في نقل الصورة الحقيقية والخبر الصادق، هو من جعل الداني والقاصي يهبّ ليشارك في وداعها، شيرين التي فضّلت هذا العمل الميداني وعرضت حياتها للخطر دائما من أجل الصدق والحق تليق بها وتستحق هذا الوداع. وهبت عمرها وآمنت بما تقوم به من أجل شعبها المتعطش للحرية والعدل والعيش بكرامة. شيرين كما أجمع، كل من شارك أو شاهد جنازتها، أنها وحّدت الشعب الفلسطيني، ولكن هذا للأسف لم يرق للآخر المتغطرس الذي لم يحترم الموقف ولا المناسبة الحزينة والمصاب الجلل.. يا لهذا الوجع كالذئاب المسعورة استشرسوا واندفعوا بهراواتهم ومعدّاتهم ليثيروا الشغب ويخيفوا ويطفئوا غليل حقدهم وكراهيتهم. هل رأى العالم انقضاضهم على المشيّعين في باحة المستشفى ومحيط الكنيسة. لماذا نحترم جنازاتهم وجنازات رجال دينهم تشلّ حركة البلاد ولا نثير شغبا فيها ولا نفسد عليهم حزنهم؟ حتى في مواقف الحزن ما أرادوا أن نحزن كما يليق، وما احترموا الميت. بالعصي ضربوا حاملي النعش، أيها العالم بشرقه وغربه هل رأيتم كيف كاد التابوت يسقط أرضا من على الأكتاف من ضربات هراواتهم!! من على رؤوس الخيل وبخرطوم المياه العادمة فرّقوا الناس.. أي أخلاق أظهروا للغير؟ أي همجية وبدائية هذه، في بلد يدّعي الحضارة والديمقراطية والرقيّ.. مؤسف ومحزن ومخزٍ ويدعو للغضب الشديد ما كان على أرض الواقع. قد جنّ جنونهم في وضح النهار، فضحوا أنفسهم بأنفسهم وأكدّوا بهذا أنهم هم من أقدموا على اغتيال شيرين، التي فضحتهم كثيرا من السنين وحاولت نقل بشاعتهم للعالم ولم يكتفوا بقتلها، ولم يرضوا بأن يودّعها أبناء شعبها كما يليق، ومشهد إنزال بعض الأشخاص ممن دخلوا إلى السيارة التي نقلت التابوت، كمن أرادوا أن يسرقوا الجثة.. يا للمذلّة والعار أرأيت أيها العالم كلّ هذا الغضب العارم في نفوسهم، انعدمت بذور الانسانية وأقل ما يمكن من مشاعر الأسى والحزن. سجّل أيها التاريخ هذا اليوم في دفاتر أيامك واشهد عليه، بكل تفاصيله الدقيقة، من مفارقات وتناقضات. وما ضرّهم لو سار النعش في شوارع القدس، ولو هتفوا لشيرين الأيقونة، ساعة من الزمن في وداعها الأخير. أليست بنت القدس وهو تطوافها الأخير لها في مدينتها. هل كان المشيّعون سيثيرون ضجة اعلامية أثناء التشييع والجنازة! كيف والموقف جلل حزين ومصاب أليم أدمى الطفل والشباب والشيب وأدمى الحجر قبل البشر هي مشاعر لا تبرح خيالي وفكري حبيسة في أعماقي منذ يوم الجنازة، وتحشرجت في الحلق تخنقه وكان لا بد أن تخرج، وكيف يكون وقع الحقيقة في وطن ينتظر الحرية وفيه انعدمت حرية الرأي في أبسط المواقف!؟ وهل سيصدح الحق من بعدك يا شيرين في وطن فيه العدل متأرجح ومنقوص! رحمك الله يا شيرين وتغمّدك برحمته الواسعة وألهم محبّيك ومن عرفك التعزية وخلّد ذكرك مع الأبرار المخلَّدين.

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*