إدوارد سـعيد “خارج المكان”؟! بقلم: مصلح كناعنة

كنت قد قرأت هذا الكتاب بنصه الإنجليزي الأصلي عام 2004، وانتهيت الآن من قراءة ترجمته إلى العربية التي أنجزها الأديب والمفكر اللبناني فواز طرابلسي، وهو أحد أصدقاء إدوارد سعيد المقربين. ولديّ شعور الآن بأنه ربما كان من الأفضل أن يُقرأ هذا الكتاب بنسخته العربية، فهي تقترب من عالم طفولة إدوارد سعيد في مصر ولبنان وفلسطين بما يتيح للقارئ العربي الولوج إلى العوالم الثقافية للأشخاص الذين يدور حولهم الحديث من أهل المؤلف وأصدقائه وزملاء دراسته وكل الذين ساهموا في تشكيل نفسيته وحياته.

هذا الكتاب الذي يُراوح بين المذكرات والسيرة الذاتية، هو نص سردي يكاد يكون أعجوبة بجمال صراحته وعمق تحليله والصدق في تفكيكه لشخصيات الذات والآخرين، وكأنَّ إدوارد سعيد يكتب لذاته وليس لقارئه… وكأنه يتحدث إلى نفسه بصوت عالٍ فنسمع أفكاره حين يُوجِّه أدواته النقدية الفتاكة إلى نفسه وأقرب الناس إليه لكي يفهم نفسه بصدق وشفافية؛ في مقدمة الكتاب يقول: 

“أؤكد أني لا أحمل أية رغبة في الإساءة إلى مشاعر أحد، ولكني بالمقدار ذاته أرى أنَّ واجبي الأول ليس أن أكون لطيفاً وإنما أن أكون وفياً لذكرياتي وتجاربي وأحاسيسي، ولعلها غريبة بعض الشيء.”

ومن الجدير بالذكر أن إدوارد سعيد قرر أن يؤلف هذا الكتاب عن حياته بعد أن اكتشف أنه مصاب بسرطان الدم الذي لا شفاء منه، وكان هذا من أواخر الكتب التي ألفها ونشرها قبل رحيله، وكان قد ألف 17 كتاباً قبل ذلك، بعضها يعتبر من روائع الفكر المعاصر.

إنك تقرأ هذا الكتاب وأنت لا تستطيع أن تطرد صورة إدوارد سعيد البروفسور العالم المثقف، المفكر الناقد، محاضر الأدب وعازف البيانو وأستاذ الموسيقى، من ذهنك، ولا تنفك تتساءل: كيف يمكن لهذا الولد الشقي المشاغب، صانع المشاكل على كل الأصعدة، الذي كان يعاني من الوحدة والضياع وعدم الثقة بالنفس، والذي كان محاطاً بكل هؤلاء الأشخاص السلبين ومنغمساً بالعنف فضَرَب وضُرِب آلاف المرات… كيف يمكن له أن ينجو بنفسه ويلملم أشلاءه ويصبح ما أصبح عليه في النهاية؟! كيف كان من الممكن له أن ينجو من التاريخ الذي يبدو أنه كان يتآمر عليه فيقذفه من مكان إلى آخر، فيلجأ في النهاية إلى عقر دار أعدائه ليتفوق فيها ويتميّز على قاطنيها ويتربع على عرشها الفكري؟!

إنه رجل أفضل ما يمكن أن يصفه وصفا شمولياً ثاقباً هو القول أنه عاش حياته كلها “خارج المكان”…

في صفحة 271 يقول سعيد أن ما يميّز كيانه أكثر من أي شيء آخر هو “الكيفية التي أدى بها عددٌ متزايدٌ جداً من المغادرات إلى زعزعة أركان حياتي منذ بداياتها الأولى. وفي نظري أنَّ ما من شيء يميّز حياتي على نحو أشد إيلاماً أكثر من تنقلاتي العديدة عبر البلدان والمدن والمساكن واللغات والبيئات.”

إنها القصة النمطية للإنسان الفلسطيني المُقتلع المهجَّر المُغترب، الذي يرى مشروع حياته في أن يظل داخل المكان… لا بل في مركز العالم!

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*