قراءة في قصيدة “من الشرفة إلى الذروة” لنبيل طنوس – د. فؤاد عزام

عرفت الدكتور نبيل طنوس جيدًا، عرفته معلّمًا للغة العبرية، ومترجمَا ضليعًا من العبرية إلى العربية وبالعكس وباحثًا رصينًا. لم أعرفه شاعرًا لكنه فاجأني بقصائد جميلة تنمّ عن ذوق رفيع وفهم عميق لقول الشعر. وحين قرأت هذه القصيدة وجدتها تستحق البحث والدراسة.

من الشرفة إلى الذروة/ نبيل طنوس

من الشرفةِ عندما يتساقطُ المطرُ
والريحُ تعوي وشجرةُ البرتقالِ
تميلُ اوراقُها والحفيفُ يضيعُ
مع العواءِ.
وحدي أتدثَّرُ بطيفِكِ
والمائدةُ جاهزةٌ.
أغلقتُ كلَّ النوافذِ
والصمتُ يملأُ البيتَ،
وبدلتُ السيمفونيةَ السادسةَ
بالتاسعةِ لسماعِ الكورالْ
لأكونَ جاهزاً لاستقبالِكِ،
استقبالُكِ والنورُ خافتٌ
خافتْ، نعم خافتْ!
ووجعُ الانتظارِ
يجثمُ على صدري.
زجاجةُ نبيذ ٍقدسيٍّ
وكأسانِ على المائدةِ
في انتظارِ شفتيكِ الورديتينِ
الداكنتين لَعَلَنا ننسى عُواءَ الريحِ
عندَ هدوءِ عاصفتي
ساعةَ حُضُورِكِ
لتبدأَ عاصفةٌ أُخرى
ونُبَّدلَ التاسعةَ بالخامسةِ
لَعَلَ صوتَ ضربةِ القدرِ
بحركاتِهِ الثلاثْ
يوصلُنا إلى الرابعةِ،
إلى الذروة،
فَلْنَمْكُثْ هُناكْ.

عنوان القصيدة “من الشرفة إلى الذروة” هو عتبة هامة من عتبات النصّ- على حدّ تعبير الباحث الفرنسي جيرار جنيت- ويشكّل أيضًا مع كل ما يسبق المتن “النصّ الموازي”. وهناك أنواع عديدة من العناوين (1)
العنوان في قصيدة نبيل طنوس فيه من الغموض ما يجذب القارئ، أي وظيفة إغوائية، لكنّ السمة البارزة في العنوان هي الرمزية، فالشرفة هي رمز الانفتاح على العالم الخارجيّ، رمز للحريّة. وبالتالي تتكون في القصيدة ثنائيات ضدية أهمّها: المغلق مقابل المفتوح.
الشرفة يسبقها حرف الجر “من الشرفة”، وفي شبه الجملة توقٌ للانتقال تكون هي هي الوسيط، أوهي البداية، وإذا تمّ الفعل تكون النتيجة قد حققت الأمنية الرئيسة، وهي “الذروة”. والذروة كلمة مفتوحة على معانٍ ودلالات شتى . وإذا حاولنا اكتناه دلالاتها الاستبدالية – حسب عالم اللغة فرديناند دي سوسير- فإننا نجد أقرب دلالة لها هي “النشوة” فهي شبيهة لها من ناحية الصوت والدلالة (2). وهي النتيجة الطبيعية والمرغوبة لأنا المتكلم في القصيدة. هذه الأنا تعاني من الانحباس في مكان مغلق وشبه مظلم، ويعاني أيضًا من حرمان وعطش جنسي. وشرط التخلص من هذا المأزق هو القيام بمبادرة للخروج من هذا المكان إلى عالم الحرية، والفرح، والاتصال وحين يتمّ الاتصال من عالم المرأة تكون الذروة هي النشوة.
تبدأ القصيدة مرة أخرى من الشرفة توكيدًا لأهميتها؛ لأنها هي المَعْبر (المكان المفتوح)، ووسيلة الوصول إلى الحرية وبالتالي إلى المرأة، والمطر يتساقط على الشرفة. والمطر يرمز إلى نقيضين: غالبًا إلى الخصب، ونادرًا إلى الموت. الأنا في القصيدة تعاني من حالة ارتباك وتوق للحرية: الشرفة، المطر، إلخ. ومقابل هذه الصور المشرقة تصدمنا صورة الريح التي تعوي (فهي حيوان مفترس يقف أمام الشاعر- كما وقف الحيوان الأسطوري (أبو الهول) على مداخل مدينة طيبة اليونانية، ثم تأتي شجرة البرتقال لترمز للوطن والبقاء، وحفيف الأوراق الذي يرمز للموت والبعث تبتلعه الريح بعوائها. وحين تغيب المرأة- الحبيبة، المرأة- الأمّ لا يبقى للشاعر إلا أن يستحضر طيفها كما هو الحال في قصيدة “الباب تقرعه الرياح” لبدر شاكر السيّاب، ويتدثّر به ليتّقي البرد المعنويّ. ثمّ يمدّ المائدة له ولحبيبته، ويغلق كل النوافذ خوفًا من خروج الطيف، لكنه يواجَهُ بالصمت الذي يملأ البيت.
تهيمن- إذًا- حتى الآن الصور القاتمة: الريح تعوي، الحفيف يضيع مع العواء، الوحدة، الغياب (حضور الطيف يدلّ على الغياب، الصمت، النور خافت).
هو ينتظرها، ويعلم أنها لن تأتيَ، وهو في حالة انتظار متعبة، ويستعمل التكرار ثلاث مرات: “خافت، خافت، خافت”. وحين يكون النور خافتًا فإنه يدلّ على اليأس.
هو جاهز لاستقبال الحبيبة، لكنه يعلم أنها لن تأتيَ، ولذا فالانتظار موجع، وكأنّ على صدره صخرة سيزيف. وحين يغيب الممكن يعيش الشاعر حالة وهمية، يعيش في انتظار الحبيبة، ويعيش طقس الحبّ، ويضع زجاجة النبيذ المقدس على الطاولة مع كأسين، ويغير سيمفونية بيتهوفن السادسة (والتي تعرف أيضاً باسم السيمفونية الرعوية Pastorale نسبة إلى الأدب الرعوي) لعله لا يريد سماع العاصفة فيها واضعًا السمفونية التاسعة كما يقول “وبدلتُ السيمفونيةَ السادسةَ بالتاسعةِ لسماعِ الكورالْ” نشيد للفرح – أو السعادة للشاعر فريدريك فون شيللر (المانيا) وليستقبل حبيبته بهذا النشيد، لعلّ هذا الطقس يحقق المعجزات كما حققها المسيح. وهنا يتقمص الشاعر شخصية المسيح وبذلك فالقصيدة قصيدة القناع.
يرسم الشاعر طقس اللقاء الوهميّ فتتغيّر الصور إلى صور مشرقة: “شفتيك الورديتين” لعله ينسى عواء الريح. وحين يتم اللقاء تحتلّ عاصفة الحب المكان، وتطرد عاصفة الريح. هذه هي العاصفة التي ينتظرها عبثا.
بعد اللقاء يبدل السيمفونية التاسعة ويتوقف عن سماع نشيد الفرح ويستمع إلى السيمفونية الخامسة التي سُميت ضربات القدر وذروتها هي الحركة الرابعة ويعبر عن رغبته في المكوث هناك في الذروة.
القصيدة نثرية، لكنها تتميز بالتكثيف والإيجاز والمجانية على حد تعبير سوزان برنار.
تتحرك القصيدة في دائرة مغلقة من التفاؤل واليأس، ولكي يعكس لنا حالته النفسية، وفراغه، وآلامه يستعمل الثنائيات الضدية، وخصوصًا الصور القاتمة والمشرقة.
هذه القصيدة درامية يتصارع فيها الواقع المرير مع الخيال المشرق. ويستعمل تقنيات فنية أهمها الانزياح: الريح تعوي، أتدثر بطيفك، والإرداف الخلفي (الأوكسيميرون)، والقناع.
إنها قصيدة مبنية بإتقان، تعكس حالة وجودية مأساوية مؤكدة على أنّ السؤال المركزيّ فيها ليس ما تقول، بل كيف تقول؟

الهوامش:
Ibrahim Taha, “The Power of the Title: Why Have You Left the Horse Alone By .1 Mahmud Darwish”, Journal of Arabic and Islamic Studies 3 (2000), 66-83.
وقد درس الباحث جنيت مبنى العناوين ووظائفها، واعتبر أنّ للعنوان أربع وظائف أساسية، وهي:1. وظيفة التعيين، أي تسمية العمل من أجل تمييزه عن غيره، ويعتبرها جنيت أهمّ وظيفة لأنها تستطيع أن تعمل بدون الوظائف الأخرى.2. الوظيفة الوصفيّة، وهي تتعلق بوصف العمل من عدّة نواحٍ، مثل: العناوين الموضوعاتية، وهي المهيمنة في وقتنا الحاضر، والعناوين الشكلية التي تصف شكل العمل ونوعه الأدبيّ. 3- الوظيفة الإيحائية، وهي مرتبطة بالوظيفة الوصفية. 4- الوظيفة الإغوائية، وهدفها إغواء الناس لشراء العمل أو قراءته. انظر:
Gérard Genette, “The Structure and Function of the Title in Literature”, Critical Inquiry 14: 4 (1988), 711-719; Idem, Seuils (Paris: Seuil, 1987), 73-97.
2. في وضع اللغة كلّ شيء يعتمد على العلاقات القائمة بين عناصرها، ويمكن تمييز مجموعتين من العلاقات والاختلافات داخل الكلمات. في الكلام تقوم العلاقات بين الكلمات في تسلسلها معتمدة على الطبيعة الخطيّة للغة وهذا يمنع إمكانيّة نطق عنصرين بشكل متزامن، فالعناصر مرتّبة بشكل متعاقب في سلسلة الكلام. وعمليّات الضمّ الخيطيّة هي متراكبات أو متواليات مؤلّفة عادة من وحدتين متعاقبتين أو أكثر، وعندما تدخل الكلمة في تركيب ما فإنها تكتسب قيمتها من مقابلتها لكلّ ما يسبقها أو يتبعها أو لكليهما، وهذه تسمّى العلاقات التركيبيّة. ومن ناحية أخرى، فإننا لو أخذنا أيّ كلمة في هذه السلسلة لوجدنا أنّها تثير كلمات أخرى ليست موجودة في الجملة وإنما في الدماغ، هذه الكلمات تسمّى بالعلاقات الإيحائيّة أو الاستبداليّة. انظر:
F. De Saussure, Course in General Linguistics (London: P. Owen, 1974), 123.
انظر أيضًا: فؤاد عزام، نظريات في الأدب، 29-30.
المراجع:
− عزام، فؤاد. نظريات في الأدب. عكا: دار القبس العربي، 1986.
− عزام، فؤاد. شعرية النص السردي: دراسة في أشكال الحبكة في روايات حيدر حيدر. حيفا: مجمع اللغة العربية، 2012​
− Genette, G. Seuils. Paris: Seuil,1987.
− Genette, Gérard.. “The Structure and Function of the Title in Literature”, Critical Inquiry 14: 4 (1988), 690-719.
− De Saussure, F. Course in General Linguistics. London: P. Owen, 1974.
− Taha, Ibrahim. “The Power of the Title: Why Have You Left the Horse Alone by Mahmud Darwish”. Journal of Arabic and Islamic Studies 3 (2000), 66-83.

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*