العظماء لا يموتون – جواد بولس

 

لا للرثاء أكتب، بل لأتشرف بعطر ذكراه ؛ فالعظماء لا يُرْثَون لأنهمدموع الأزل الباقية.

كان اسم بسام الشكعة، بالنسبة لأبناء جيلي، يعني حرية فلسطينالحمراء؛ وكان صوته صهيل المدى، إن جلجل لا يتركك تائهًا فيمساحات الحيرة، وإن قضى لا يبقيك متسكّعًا في حضن ذلكالالتباس الحافي.

عرفته قائدًا عروبيًّا واثقًا بالفجر حتى عندما كان الآخرونيلتحفون العتمة ويخشون حفيف الشجر وهسيس الليل. وعشت،لسنوات، قريبًا منه فوجدته نبعًا صافيًا حرًّا، وانسانًا لا يخشىفي قول كلمة الحق سيفًا؛ وفارسًا يرقّ قلبه لكل من قصده شاكيًامن سطوة الأيام والأنام.

كنت ، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، نشيطًا في الحركةالطلابية الجامعية وبدأت من موقعي أتعرّف على جيل القياداتالفلسطينية في وقت مبكر ؛ ثم صرت متدربًا فمحاميًا في مكتبالمحامية الشيوعية التقدمية فيليتسيا لانجر ، حيث التقيت بكبارقادة فلسطين في ذلك الزمن، وفي طليعتهم صاحب الابتسامةالهادئة والجبين العريض بسام الشكعة.

حاول أعداء فلسطين، وعلى رأسهم الاحتلال الاسرائيلي، أنيضعضعوا مكانته القيادية وأن ينالوا من تأثيره السياسي بجميعالوسائل والأحابيل والطرق؛ فلجأوا بخبث، في البدايات، إلىافتعال وتأجيج الصراعات العائلية النابلسية المحلية، لكنهم فشلواوبقي بسّام رقمًا صعبًا وعلمًا حاضرًا في كل واقعة وحدث، واسمًاوازنًا على كل منصة ومنبر .

لم يخفِ بسام انتماءه السياسي العروبي القومي الناصع،فاستغلّ الوشاة والمغرضون صدقه وأشاعوا أن ولاءه أولًا لسورياولبعثها، على حساب فلسطين وشعبها؛ إلا أنه لم يلتفت إلى تلكالسفاهات، ومضى على طريق النضال كما تشهد حياته الزاخرةبالتضحيات الجسيمات.

قالوا عنه أنه ارستقراطي وابن لعائلة مترفة ؛ فلم يكترث لذلكأيضًا، بل وقف في وجه العاصفة وتصدّر الميادين؛  وأقام مع رفاقالدرب  “لجنة التوجيه الوطنيالتي شكلت دعامةً لمشروع التحررالوطني الفلسطيني ووتدًا ثبّت دور منظمة التحرير الفلسطينية وماعنته من وحدانية تمثيل الشعب وأهداف كفاحه الوطنية.

عرف أعداء فلسطين أهمية قائد مثل بسام الشكعة وقوة تأثيرهالشعبي، وبعد أن فشلوا في إسكاته وفي ثنيه عن مواصلة الكفاحضد الاحتلال وضد أعوانه، حاولوا منع الناس من التواصل معه،فنصبوا على باب بيته في نابلس حاجزًا عسكريًا، كانت مسؤوليةجنوده التنكيد على من يدخل لزيارته ومن يخرج منها. أرادواترهيب الزائرين فكانوا يسجلون أسماءهم وتفاصيلهم الخاصةحتى يلاحقوههم. لقد فشلوا مرة أخرى ولم يحققوا اهدافهم بلعلى العكس تمامًا، فأعداد الزوّار، رغم التنكيل، كانت تتزايد،وبقيت دار بسام عنوانًا للأحرار وللناس وبقي صاحبهاأبًاللنضال” .

شكّل بسام الشكعة، مع ثلة من القادة الوطنيين الفلسطينيين، حالةمتميّزة في تاريخ الكفاح الفلسطيني دامت لسنوات طويلة ؛ كنتأنا شاهدًا على جزء مما كانت تعنيه تلك التجربة الفريدة حيناعتُمدت، في بداية ثمانينيات القرن الماضي، من قبله ومن قبلرفيق دربه، الراحل الكبير وحيد حمد الله، رئيس بلدية عنبتا، لأكونمحاميًا للدفاع عن أصحاب الأراضي التي صادرها الاحتلالبحجة أنهاأراضي دولة“.

تابعت معهما عشرات القضايا وشاهدت بأم عيني كيف كاناينتفضان اذا سمعا بأمر مصادرة جديدة أو بخيانة صاحب أرضضعفت ذمته فسرّب أرضه للمستوطنين. لم تكن الخيانة، في ذلكالعصر، عنده وعند أترابه ، القادة الوطنيين، مسألة فيها وجهة نظر.

لقد كانوا قادة أوفياء، فشكّلوا مظلّةً وطنية واقية وحصنًا منيعًاحموا تحت سقفه من كان يلجأ اليهم، وعلّقوا على جدرانه سورًاأفادت كيف تكون التضحية سموًّا والعطاء فريضة والوفاء للوطنعربونًا للخلاص.

لقد عرفته معلّما سياسيًا فذًا يستعين بعقله في الشدائد؛ وخبِرْتُهُصديقًا وفيًا يعطي من قلبه نبضة ومن عروقه وردة كما فعل عندماتجشم عناء السفر الى بلدتي ليشارك في فرحي.

كان العرق يتصبب من جبين ضيفي العزيز  وهو يمشي ببطءمتكئًا على عكازتيه وبرفقته، أم نضال ، شريكته في الكفاح وفيالعناء وفي الأمل. عاتبته على المجيء وقد كان عائدًا من جولةالعلاج في فرنسا.  ضمّني إلى صدره فشعرت انني أملك الدنيا.  

لا أعرف ماذا تعرف أجيال اليوم عن تلك الملاحم التي سطرهاجيل تحدّى، بكبرياء الأحرار ،جنازير دبابة الفاتحينوغطرسةالرصاص، فوصل بارودها إلى عتبات بيوتهم.

يبكيني جهلأجيال اليوموقطيعتهم عن ذلك التاريخ الناصع منحياة شعبنا؛ ويقلقني فقدانهم لجهات الريح وليواطر الأمل؛ فلقدضحّى بسام الشكعة، وأمثاله، من أجل استقلال فلسطين والعيشفي ربوعها بكرامة، وقاوم بصلابة لم تلن؛ وحتى عندما قطع بارودالفاشيين ساقيه، مضى ماشيًا نحو الشمس بقامة من نور وبعزممن نار.

لقد عرفته انسانًا وقائدًا وصديقًا، فلسطينيًا روى بدمائه ترابالوطن/ نابلس التي أحبها وعاش فيها وسيبقى؛  فالعظماءيرحلون، لكنّهم لا يموتون لأنهم دموع السماء الزكية الأزلية.

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*