إلى جيل التغيير الديمقراطي اللبناني.. معكم ونحبكم – سمير دياب

في 17 اكتوبر الماضي حدث تحول نوعي في التراكم النضالي الكمي ادى إلى تفجر غضب الفئات الشعبيةالفقيرة، في لحظة ” طفح الكيل”، بالتزامن مع صولات وجولات الحكومة مجتمعة في البحث عن خفض نسبة الدين العام، وفق شروط البنك الدولي والدول المانحة لقروض “سيدر” ، واعتماد زيادات إضافية على الضرائب التي تطال حصراً الفقراء دون المس بمصالح الطغمة المالية والمصرفية والعقارية، أو فرض ضرائب على سارقي الاملاك البحرية والنهرية.. أو حتى التفكير للحظة واحدة باسترجاع لار واحد من عشرات مليارات الدولارات المنهوبة من قبل محاصصات أرباب النظام سراً وعلناً.

حدث تاريخي جلل، لم تحتاط له أبداً قوى النظام السياسي الطائفي المسيطرة، ولم تأخذه على محمل الجد إطلاقاً، ليقينها أن مفاتيح الصناديق الطائفية والمذهبية التي قسمت المجتمع اللبناني بحوزتها. وبالتالي، لا يمكن الاقتراب منها، أو تحطيمها بارداة قوى شعبية محطمة طائفياً، ومفتته مذهبياً ، وتابعة بالمطلق، لزعماء سياسيين طائفيين يملكون دون نقاش أو تذمر قرارات     الربط والحل، الحياة والموت، متجاوزين بأشواط النمط الاقطاعي، وبشكل أسوأ وأرذل في ادارة شؤون رعايا الطوائف. 

إنطلقت الجماهير إلى الساحات والشوارع تحمل همومها الاجتماعية، وتشكو واقعها المعيشي والصحي والحياتي ..، وتعرض بصورها عبر شاشات التلفزة قهرها وفقرها وجوعها وبطالتها وضماناتها وسكنها وطبابتها وشيخوختها  ونفاياتها وحقوقها المهدورة والمسروقة قمعاَ وظلماً.. حتى فاضت القضايا على كثرتها وتنوعها وتعددها وكميتها.. وإعتقد الكثيرون أنها مبالغات غير واقعية، أو ربما هي مدفوعة الأجر للنيل من النظام.. لكن ما قيل هو أقل مما يتصوره الواقع الحقيقي.. وهذه حقيقة، والحقيقة ظهرت كما هي من دون رتوش أو كفوف بيضاء وعلى لسان نصف سكان الشعب اللبناني.  

ثلاثون عاماً من وعود الاصلاح والاعمار والتنمية.. من عهد وراء عهد، ومن حكومة وراء حكومة.. ومجلس نيابي وراء مجلس نيابي.. ومن قانون انتخابي طائفي إلى آخر.. والنتيجة،     زيادة الديون من 8 مليار دولار إلى 100 مليار دولار، وزيادة الفقر والبطالة، وغياب التنمية على كافة المستويات. كل الحكومات مشغولة بكيفية توزيع المحاصصات الطبقية الطائفية – تثبيت الزعامات – وإلا يختل التوازن الداخلي والاقليمي والدولي. وفي عفكة توزيع الصناديق والمغانم والصفقات تناسوا أن هناك شعبلبناني، أو حتى رعايا طائفية.. حتى وصل البلد إلى حافة الانهيار، ولم يفيقوا بعد، أو لا يريدون ذلك حفاظاً على امتيازات كرسوها بإعلان وفاة دستور الطائف الذي اقرته القوى المسيطرة القائمة ذاتها، وليعمموا دساتيرهم الطائفية الخاصة بأسم “التوافقية الديمقراطية”. هذه التوافقية الطبقية، أتفقت على سرقة الكهرباء والمياه والنفايات والسكن والطبابة والطرقات والتعليم والتوظيفات والصناديق والصفقات والموازنات والضرائب وقوانين الانتخابات وكافة الحقوق الإنسانية .. ومع كل زيادة في الديون كان البلد يرتمي أكثر بأحضان وشروط المؤسسات الدولية والاميركية والرجعية الضامنة.   

حتى كتابة هذه السطور، وبعد 17 يوماً على إنتفاضة الشعب اللبناني، لا يريد أرباب النظام السياسي –الطائفي أن يقتنعوا بأن “رعاياهم” قاموا ضدهم لدوافع اجتماعية واقتصادية محضة، لإنهم موجوعون ومفقرون ومهجرون .. ولم يقتنع هؤلاء الامراء بعد، أن شعبهم لم يعد يثق بهم وبوعودهم الكاذبة. لذلك، تعاملوا مع مليون مواطن ومواطنة من كل المناطق اللبنانية نزلوا الى الشوارع، وكسروا حاجز خوفهم وطوائفهم ، وصوبوا نحو وجعهم الطبقي الحقيقي. هؤلاء ليسوا  جيشاً مستورداً من الخارج، هؤلاء هم من دافعوا عن الوطن ومقاومته وحرروا أرضهم دون قيد أو شرط. ووقفوا سداً منيعاً في وجه كل الفيدراليات الطائفية، ومن أجسادهم وعرقهم وجيوبهم  تم إعمار لبنان. هؤلاء انتفضوا ضد الاستغلال والاضطهاد والظلم والفساد والطائفية والمذهبية والهدر والنهب.. ليدافعوا عن كرامتهم وحقوقهم وحياتهم.. هؤلاء هم الوطنيون الشرفاء.  

في الوقائع، تحاول القبضات الحاكمة أن تطمس حقائقالانتفاضة وتحريف اتجاهاتها. لكن فهم الحقيقة الثورية تقتضي تقديمها ونشرها لفهم حركة الصراع الطبقي والتزود بالغذاء الفكري والمعرفي السياسي لتسليح القوى المنتفضة بمضادات حيوية لتعزيز الوحدة والمقاومة لتحقيق أهدافها في الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، عبر الغاء الطائفية، ووضع قانون إنتخابي ديمقراطي خارج القيد الطائفي ونسبي مع لبنان دائرة واحدة، ثم اجراء تعديل جذري في مجمل السياسة الاقتصادية النيولبيبرالية– اقتصاد الريع الرأسمالي غير المنتج –  باتجاه وضع منهجية لسياسة اقتصادية وطنية منتجة، ووقف الخصخصة، واستعادة الأموال المسروقة والمنهوبة على مدى 30 عاماً، والبدء في تعزيز استقلالية القضاء، ووضع خطة تنموية شاملة، ووضع أجندة سريعة لتقديم كافة الخدماتالعامة ، واسترجاع الحقوق الإنسانية والقانونية والصحية والبيئية..

الأهداف التي تطرحها الانتفاضة الشعبية ليست وليدة لحظتها، فالشيوعي واليساري والديمقراطي وكل وطني غير طائفي بات في خريف العمر وهو يناضل/ أو هي تناضل من أجل القضايا الوطنية والطبقية.. من مقاومة الاستعمار الفرنسي إلى مقاومة المحتل الصهيوني..ومن مواجهة نظام الاقطاع السياسي البائد إلى مواجهة تحالف النظام البرجوازي – المالي – الطائفي من أجل تحقيق التغيير الديمقراطي.   

لم يتخاذل الوطني التغييري يوماً عن القيام بمهامه من أجل احداث خرق في جدار النظام البرجوازي الرأسمالي التابع،ولباسه الطائفي، وطغمته المالية، من أجل بناء السياج الوطني الذي يحمي الوطن بوحدة شعبه، ويعزز سلمه الاهلي، ويحصن انتصارات مقاومته، لبناء الوطن الديمقراطي العلماني المقاوم. بدلا من الدفاع أو التمسك بوطن مشلح ومشرع على تدخلات خارجية للنيل منه، ومن مقاومته، ولا سيما من خطر المشروع الصهيوني، والشرق الاوسط الجديد.    

إن استمرار السلطة في تجاهل مطالب الانتفاضة الشعبية الديمقراطية حتى بعد أن حققت  خطوتها الاولى في إجبار الحكومة على الاستقالة بعد 13 يوماً على إنطلاقتها. وتسويف الوقت والمماطلة في عملية تأليف حكومة وطنية ديمقراطية إنتقالية مهمتها وضع قانون للانتخابات خارج القيد الطائفي وفقا للدستور، واستعادة الاموال المنهوبة وفق آليات قانونية وطنية وقضاء مستقل ومحاسبة ..وإجراء انتخابات نيابية مبكرة.. كمحطة ثانية، من محطات سيرورة نضال الانتفاضة الشعبية الوطنية التي يعلم الداني والقاصي أنها ستكون قاسية مع نظام سياسي متجذر في ارتباطاته الطبقية، ومتأصل في بناء شبكة اقتصاده الريعي وحيتان رأسمال المتغول، ومظلة تقسيماته الطائفية، وتوافقاته الميثاقية.. وارتباطاته الخارجية. وهو يعلم ونحن نعلم، أن نظامه   مأزوم، وهو مسؤول بالتكافل والتضامن عن الأزمة الوطنية. ويعلم أنه أفلس، ولم يعد قادراً على تطوير القوىالمنتجة، كما كان يفعل من قبل. ويعلم أنه يحاول التذاكي على حركة الانتفاضة  لاعادة إنتاج ذاته. 

ويعتقد أرباب النظام أنهم بنكرانهم لحركة الانتفاضة الشعبية يستطيعون أن يوقفوا عجلة التاريخ، بسعيهم إلى إخراسها عبر إدخال العامل الطائفي أو المذهبي مجدداً على ملعب الإنتفاضة، أو تخويف الناس بالفوضى أو الانهيار الاقتصادي أو التدخل الخارجي أو الحرب الاهلية.. أو بتفيلت ” مفتولي عضلات النظام ” للترويع الشباب المنتفض في الساحات على مرأى من القوى الأمنية، بحجة المس بالمقدسات لترهيبهم والقضاء على سلمية الانتفاضة الشعبية الوطنية وديمقراطيتها..  لكن كل ذلك محسوب له الحساب، وأثبتت الانتفاضة بشبابها ومشاركيها أنها أحرص من أرباب النظام على الوطن والشعب والمقاومة.     

حتى الآن نستطيع القول، أن الانتفاضة شقت طريقها، ونجحت في إختبار قوتها ووحدتها وصمودها، وتعرية أصوات النشاز من داخلها. فوضوح خطابها ومطالبها والثبات عليها أزعج شركاء النظام وأربكهم، ووسع من حدة التناقضات بينهم، وجعل من مكوناتها المختلفة شريكاً فرض نفسه على مجريات تطور الاحداث.

وعلى هذه المكونات أن تستمر بذات المنهج والقوة والوحدة والثبات من أجل إحداث التغيير الديمقراطي المنشود.

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*