حيفا في ذاكرة برهوم، كي لا تُنسى.. (الحلقة السَّابعة) د. خالد تركي حيفا

د. خالد تركي حيفا

كان عمر والدي حين رحل جدِّي عن الدُّنيا اثني عشر ربيعًا،وكان حاضرًا وجاهزًا للسَّفر إلى دير المُخلِّص، بعد العيد، وحينأعلن الخوري عن ابتداء جنَّاز المسيح، بصلاته “اليوم عُلِّق علىخشبة، الذي علَّق الأرضَ على المياه، إكليلٌ من شوكٍ وُضع علىهامة ملك الملائكة” شعر والدي أنَّه هو المصلوب، وأنَّه هو ملكالملائكة، وأنَّه هو الذي عُلِّق على خشبةٍ، وأنَّ المسامير تُضرببالمطرقةِ في راحة كفيه وظهر قدميه، وهو الذي ضُرِب بحربةٍ فيخاصرته، ولا أحد غيره الذي عُلِّق، ليتعذَّب بفقدان والده، فكيفلوالد العالم أن يحرمَه من والده، وإن حرمَه والدَه فمن سيُعوِّضهعن والده وعن هذا الفقدان الكبير، ويتذكَّر والدي هذا اليوم منكلِّ سنة، ويحدِّثنا عن تلك الفاجعة التي حلَّت بهم، ولا يبخلبدموعه على هذا الفراق العظيم، الحادث الجلل، في اسبوعالآلام العظيم، بعد أن يجهش باكيًا ومتحدِّثًا بتفاصيل ذكرياته..

لقد أتاني والدي بشهادة تسجيل الوفاة، الصَّادرة عن دائرةالصِّحَّة، لحكومة فلسطين، لقد كان التَّسجيل بعد يومٍ من الوفاة،في الثَّامن والعشرين من شهر آذار، من العام الف وتسعمائةوخمسة واربعين، وتشهد أنَّ الطَّبيب د. شفيق حدَّاد، رئيس قسمالأمراض الدَّاخليَّة في الاسبيطار الحكوميِّ، الذي كان رئيسهوجرَّاحه الشَّهير في حيفا والقضاء الدكتور نايف حمزة (3)، هوالذي بلَّغ العائلة عن وفاة جدِّي سمعان تُركي (كما يظهر فيشهادة الوفاة)، وأنَّ الطَّبيب، د. منير مشعلاني وقَّع على شهادةالوفاة في خانة امضاء ورتبة المأمور الذي سجَّل الوفاة، وقد كانالدكتور منير مشعلاني يعمل معاونًا للمدير العام لدائرة الصِّحَّةفي حيفا ونائبه، وايضًا وكيل رئيس اطبَّاء لواء حيفا، ورئيسدوائر الصِّحَّة في حيفا، أمَّا سبب الوفاة فكان التهابًا في غشاءالقلب ما سبَّب إلى فشلٍ طارئٍ في عمل عضلة القلب، ولم تعدتقوى على ضخِّ الدَّم في العروق وقد سُجِّل في خانة الجنسيَّة،فلسطيني، والمذهب مسيحيٌّ. وهذه شهادة للطَّرشاء الصَّمَّاءجولدا مائير، الرئيس الرَّابع لحكومة الإضطهاد القوميِّوالإحتلال، حين اعلنتها مرارًا أنَّها لم تسمع البتَّة بشعبفلسطين، وبهذا عبَّرت عن كرهها للعرب “لا يوجد شعبفلسطينيٌّ”، وما انفكَّت الحكومات العنصريَّة المتعاقبة علىرقابنا، تتنكَّر لوجود شعبنا، حكومات “طُرشان”، مردِّدة مقولةآباء صهيون، أن لاشعب في هذه البلاد لذلك عليها أن تكونلشعبٍ بلا أرض..

(النُّمرة المتسلسلة في التَّسجيل 301/45، وقد حملت شهادةتسجيل وفاة جدِّي “النُّمرة 31609، انظر الشَّهادة). لقد لفتنظري في تلك الشَّهادة انَّهم يكتبون كلمة “النُّمرة” وليس كلمةالرَّقم، كذلك في اعلانات الأطبَّاء يُسجِّلون إسم الشَّارع ويذيِّلونهبرقم البيت “نومِرو” كذا..

لقد كان زميل د. المشعلاني، الطَّبيب رشدي التَّميمي رئيس لجنةأطبَّاء حيفا ونائب

رئيس الجمعيَّة الطِّبيَّة العربيَّة الفلسطينيَّة ورئيس المستوصفالإسلاميِّ في حيفا والحائز على الميدالية العراقيَّة والمصريَّة،وقال د. قيصر خوري في الدُّكتور المشعلاني:

المشعلاني روحُهُ وفؤادُهُ وقفٌ على العِلات والأدواءِ

أمَّا عن الدُّكتور نايف حمزة، الذي انتقل إلى حيفا، عام الفٍوتسعمائةٍ وأربعة وثلاثين، بعد أن عمل في مدينة نابلس، فيالمستشفى الوطنيِّ، وفي قدس اقداسنا عمل رئيسًا للمستشفىالحكوميِّ، حيث قالوا عنه إذا خسرته نابلس والقدس فقد ربحتهحيفا، فقد قال د. قيصر خوري:

ويقود هذا السِّرب “حمزة” عاليًا للمجد يقطفُهُ من الجوزاءِ

قال هذا فيهما بمناسبة انعقاد المؤتمر الطِّبِّي الفلسطينيِّ فيحيفا، “في لوكاندة ركس” حسبما جاء في الصُّورة، فندق ركس،الواقع في زاوية شارعي الملوك والبنوك، في أربعينات القرنالماضي..

أمَّا الإسبيطار الحكوميُّ قرب شاطئ بحر حيفا فله قصَّته:

رغِبت الرَّاهبات الكرمليَّات في فرنسا، ببناء دير كرمليٍّ على جبلالكرمل، جبل مار الياس، وذلك في شهر تشرين الثَّاني، فيسبعينات القرن التَّاسع عشر، وفي ثمانيناته نال موافقة البابالاون الثَّالث عشر وبركة بطريرك القدس في ذلك الوقت منصوربراكو. وعند وصولهنَّ ميناء حيفا، اقتنين قطعة أرض علىشاطئ البحر، تابعة للآباء الكرمليِّين الأمر الذي أثار حفيظةالباب العالي، الذي كان يرفض بيع الأراضي للأوروبيِّين، لكنتدخُّل بطريرك الأرمن الكاثوليك في القسطنطينيَّة، أجاز عمليَّةالبيع والشِّراء، فأصدر فرمان بناء الدَّير. حيث وُضع حجرالأساس في الثَّامن من أيلول من العام الفٍ وثمانيمائة وواحدوثمانين، تحت إشراف المهندس الكرمليِّ (راهب) جوزيف ماريللقلب الأقدس، وفي أوائل تسعينات ذلك القرن، سكنت الرَّاهباتفيه، رغم أنَّ بناءه لم ينتهِ بعد..

بعد اندلاع الحرب الكونيَّة الأولى، أصدر الباب العالي فرمانًايطالب من خلاله جلاء الرَّاهبات من الدَّير، وترحيلهُنَّ إلى اوروبا،فتركن الدَّير، إلى موطنهنَّ ولكن بعد انهيار الباب العالي، وقعتبلادنا تحت نير الإستعمار البريطانيِّ، فعُدنَ ثانيةً إلى حيفا،وسُجِّل هذا العقار باسمهنَّ، وكان ذلك في الرَّابع من أيلول منالعام ألفٍ وتسعمائة وإثنين وعشرين. لكنَّ الدَّير كان في حالةكئيبة وفي وضع مُزرٍ، حيث استُعمل كمعسكرٍ لجيش بنيعُثمان،  ومستشفى عسكريٍّ. لكنَّ تطوُّر حيفا السَّريع، منعالدَّير من الإستمرار في حالته التَّقشفيَّة، والإعتكافيَّة والصَّمتوالتَّأمُّل والخلوة مع الدَّيَّان، الأمر الذي دفعهنَّ بالتَّفكير فيالإنتقال إلى موقع آخر على قمَّة الجبل بعيدًا عن ضوضاءالإنجليز ومشاريعهم، حيث بدأ البريطانيُّون بالتَّفكير ببناءالميناء، وبدأ البناء من تلك المنطقة، من الدَّير، ففي ربيع السنَّةالرَّابعة والثَّلاثين من القرن العشرين قامت الحكومة البريطانيَّةبشراء الدَّير، حيث كانت معنيَّة بإقامة مستشفى لها يُشرف علىشاطئ البحر. فأصبح الدَّير بعد سنتين مستشفى للحكومةالبريطانيَّة وانتقلت الرَّاهبات إلى قمَّة جبل الكرمل لبناء ديرٍ آخرلهُنَّ، منطقة ستيلا ماريس، وهو الدَّير الموجود حاليًّا، هناكبوَّابتان لمنطقة الدَّير بوَّابة الدِّير السُّفلى عند بداية شارع ستيلاماريس (بوَّابة الدِّير)، والبوَّابة العُليا في نهاية شارع الجبل (4)،عند دير الرَّاهبات الكرمليَّات المُتأمِّلات.

إنَّ تدخُّل بطريرك الأرمن الكاثوليك أجاز عمليَّة بيع وشراء الأرضالتي أُقيم عليها الدَّير قرب الشَّاطئ، والذي أصبح لاحقًامستشفى، ما يدلُّ على العلاقة الوطيدة بين أهل البلاد وبينالأرمن منذ ذلك الوقت، زد على ذلك إنَّه بعد المذابح التي ارتُكبتبحقِّ الأرمن، والإبادة الجماعيَّة التي نفَّذها بنو عثمان بالأرمن،دفعهم إلى الهروب من هذا الظُلم حيث لجأوا جنوبًا إلى بلادالشَّام، وعاشوا بين ظهرانينا، في حاراتنا وبيوتنا ومدارسنا،وكان حالنا وحدًا، وقد أحسنَّا وفادتهم، وتعاملنا معهم كأهلبيتنا، بل وساهموا في بناء وتطوير البلاد، وفي دعم الحركةاليساريَّة في بلادنا، في سورية ولبنان وفي فلسطين، وشاركونانضالنا ضدَّ العثمانيِّين، العدو المشترك، وضدَّ الإحتلالالإنجليزيِّ والفرنسيِّ، العدو المشترك أيضًا، حيث ربطوا ربطًاوثيقًا بين نضالهم ضدَّ المستعمر، الفرنسيِّ والإنجليزيِّ،وكفاحهم من أجل أرمينيا مستقلَّة والعودة اليها..

يذكر والدي أنَّه قبل النَّكبة بعام، خرجت حيفا عن بكرة أبيها إلىميناء حيفا لتوديع الإخوان الأرمن الذين اختاروا العودة إلىبلدهم الأم، أرمينيا السُّوفييتيَّة، على ظهر باخرة سوفييتيَّة،واسمها بابيدا أي النَّصر، وقد كانت حناجرهم تصدح بأغانيهمالأرمنيَّة الشَّعبيَّة، ويُلوِّحون بمناديلهم وقبَّعاتهم وبسواعدهمشاكرين شعبنا على احتضانهم لهم واستقبالهم، وكان علىرأس المودِّعين الرِّفاق حنَّا نقَّارة، إميل توما، محمَّد موسى سليموالمطران حكيم، وقد كان عددهم اربعة آلاف ارمني، من العراقوالأردن وسورية ولبنان وفلسطين..

وتنقل لنا صحيفة “الإتِّحاد” في عددها الصَّادر في الثَّاني منتشرين الثَّاني عام الفٍ وتسعمائة وسبعة وأربعين، كلمة عنشباب الأرمن العائدين، القاها الأرمنيُّ موسى شاهينيان:

“غدًا أو بعد غد تحملنا الباخرة إلى أرمينيا السُّوفييتيَّة،وستخنقنا دموع التَّأثُّر والسُّرور

إنَّها دموع ألمٍ لوداعكم ووداع فلسطيننا العزيزة، ويعزُّ علينا أننودِّعكم والإستعمار باقٍ

هنا، يتآمر ويتلاعب. ويا حبَّذا لو بقينا هنا إلى جانبكم نشارككمالنِّضال. وهي دموع سرورٍ أيضًا لأنَّنا نعود إلى أرمينياالسُّوفييتيَّة حيث ربوع الحرِّيَّة والسَّلام.”

وتتابع “الإتِّحاد” حديثه:

“سنقف دائمًا إلى جانبكم وستجدون منَّا خير دعاةٍ لقضيَّتكمالعادلة، فاضحين الإستعمار ونواياه بين سائر شعوب الإتِّحادالسُّوفياتي..عاش نضالكم من أجل الجلاء والحرِّيَّة والإستقلال،عاش وطننا الثَّاني فلسطين حُرًّا مستقِلاً، عاشت صداقةالشَّعبيْن الأرمنيِّ والعربيِّ”.

يكتب لنا الرَّفيقان والشَّقيقان نعيم وعودة الأشهب في كتابهما”اليسار العربيُّ الفلسطينيُّ” (ص38) ما يلي، على لسانالأمين العام للحزب الشُّيوعيِّ الفلسطينيِّ، في ثلاثينات القرنالماضي، رضوان الحلو:

كان رفاق الحزب يقدِّمون المساعدات الفنيَّة للثُّوَّار، في اللد مثلاً،حيث يوجد خليَّة حزبيَّة قويَّة، كان هناك اتِّصال مع مجموعةالقائد حسن سلامة، وكان الرِّفاق مثلاً يساعدون في تصليحالألغام القديمة، وتدريب الثُّوَّار على استعمالها، وقد شارك فيهذا النَّشاط رفاق يهود وعرب وأرمن..

ما أجمل عِرفانُ الجميل، وما أجمل أن يُرَدُّ الجميلُ بالجميلِ..

أمَّا موقع الاسبيطار الحكوميِّ كما ذُكر فهو على شاطئ بحرحيفا، مقابل شاطئ ابو نصُّور البلديِّ، الذي كانت تنتصب حولهالألعاب والمراجيح والملاهي ووبيع الحلويَّات على أنواعها الزكيَّةوالزَّاكية والمشروبات الطَّازجة الباردة والمثلَّجة خاصَّةً، والبوظةعلى أنواعها في أيَّام الأعياد، كان النَّوَر يجيدون الألعابالبهلوانيَّة وترقيص السَّعادين..

يذكُرُ والدي أنَّ الأب يواكيم قرداحي، الحازم والصَّارم، كانمدير المدرسة الأسقفيَّة

للرُّوم الملكييِّن الكاثوليك، وقد أدار الهيئة التَّدريسيَّة والتَّعليم علىأحسن وجه، حتَّى بلغ مستوى التَّعليم فيها عاليًا، نموذجًا ومثالاًلباقي المدارس، وكانت تُعتبر هذه المدرسة مدرسة الطُّلابالفقراء، بينما كانت مدرسة الفرير التَّابعة للآباء السِّيليزيان لأبناءالعائلات المُقتدرة وغالبًا ما كانت تقع مشاحنات ومنافسات بينطلاب المدرستين، وكانت “تعلق الطُّوش” على اتفه الأسباب، أوعلى اسباب “طبقيَّة” بين “الأغنياء والفقراء”.

يُحدِّثُني والدي أنَّه ذات يوم جاء مدير المدرسة الأب يواكيمقرداحي، وطرد أخاه، الطَّالب داود، بسبب تغيُّبه عن المدرسة،قائلاً له: هذه مدرسة وليست خان! فندق، فعاد إلى البيت حزينًا،وقصَّ على والدته ما حدث له في المدرسة، فتوجَّهت إلى الأبالمدير ليُسامحه هذه المرَّة، محاولة شرح سبب غيابه الذي لميشفع له، فتوجَّهت إلى المطران الحجَّار ليشفع له عند المدير،لكنَّه كان “طبل عند أطرش”، رفض عودته إلى مقعد الدِّراسة،لكنَّه، بعد ثلاثة أشهر من الإبعاد، عاد إلى المدرسة، وعوَّض ماخسره اثناء غيابه وكان من المتفوِّقين في المدرسة..

كان يقف مدير المدرسة في صباح كلِّ يوم دراسيٍّ داعيًا طلابهإلى الوقوف بانتظام  ليقف على ترتيبهم وانتظامهم ونظافتهمالجسديَّة وبعدها يدعوهم إلى الصَّلاة في كنيسة مار الياس،للرُّوم الملكيِّين الكاثوليك، التي كانت بقرب المدرسة، لنظافتهمالرُّوحيَّة، وبعد ذلك يعودون إلى ساحة المدرسة للوقوف بانتظام،تحضيرًا إلى إنشاد نشيد الصَّباح، “موطني (5):

مَوطني الجلالُ والجمالُ والسَّنـاءُ والبهـاءُ في رُبـاك

والحياةُ والنَّجاةُ والهناءُ والرَّجاءُ في هـواك

هل أراك سالمًا مُنعَّمًا وغانمًا مُكرَّمًا هل أراك

فـي عُلاك تبلغُ السِّماك

مَوطني مَوطني

لقد كان في صفِّ والدي، كما في باقي صفوف المدرسة، تلاميذمن مختلف الأديان مسيحيُّون ومسلمون ويهود، وكأنَّهم من عائلةواحدة، وقلوبهم مع بعض، مثالاً ونموذجًا في العيش المشتركلأبناء الوطن الواحد والشَّعب الواحد، لا يعرفون العنصريَّة أوالتَّزمُّت أو الإكراه، كانت علاقتهم ممتازة، لا تشوبها شائبة، ولميكن ايُّ توتُّرٍ أو اختلاف بينهم، وجميعهم يتحدَّثون العربيَّة،وينشدون الأناشيد الوطنيَّة الصَّباحيَّة، بعد أن يكونوا قد أدُّواصلاة الصَّباح، حيث لم يكن هذا الشُّعور الذي يفرِّق ما بينالأديان.

(نتواصل، إنتظروا وشكرًا)

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*