شُلَّتْ يَدُ الغَدْرِ وَالقَهْرِ وَالشَّرِّ.. د. خالد تركي حيفا

لا أدري أيَّ يدٍ اقترفت هذا الجُرم، لا أدري أيَّ إصبعٍ ضغط على زناد مسدَّسٍ أطلق تلك الرَّصاصات الخمس الحاقدة، لا أدري أيَّ قلبٍ يجري في غرفِهِ دمٌ اقترف هذا الإثم، لا أدري أيَّ عينٍ ترى، يا تُرى، صوَّبت فوَّهة النَّار إلى قلبِهِ الدَّافئ وهو يُداعب طفله، إبنه، لا أدري أيَّ منطقٍ يفكِّر به ذلك الدِّماغ الذي أبقانا مشدوهين ومستغربين لحدوث تلك الجريمة الرَّعناء، التي أوقفت زفيرَنا وسجنتْهُ بين ضلوعنا كي لا يفضحنا حين نشكُّ بهوِيَّة المجرم، القاتل، لا أدري أيَّ شهامة ومروءة وأصالة وعِزَّة نفسٍ تقتل ذلك الذي أتى متطوِّعًا لمخيَّم جنين، ليبني مسرحًا وثقافةً وفنًّا مقاوِمًا وحياةً أخرى أجمل، ليجد أنَّ “أمَّ عامر” تنتظره حين يخرُجَ من المسرح لاستراحته في بيته الذي اختاره أن يكون في مخيَّم جنين تاركًا حيفا ورفاهيَّتها ومسرحًا متطوِّرًا، ودخلاً ماليًّا يسيرًا..

أيُّ نذالة تلك، التي وجدها الجاني حين اقترف جريمة قتل المغدور وهو في حِماه وفي حِمايته وفي قلب مخيَّمه وفي ساحة داره ، متجاهلاً تاريخ المناضل الشَّريف والطَّوعي لخدمة شعبه في المخيَّم والتَّطوُّعي لأهله، وتاريخ والديه القياديِّ النِّضاليِّ العريق..

خمسُ رصاصات جبانة دوَّت في هواء وفضاء مخيَّم جنين بعد أن مزَّقت سماءه، أو حتَّى سماء الوطن، انطلقت من مسدَّسٍ كاتمٍ لصوتِ ذلك المناضل الأبيِّ، ولصوتِ المسرح الذي بناه ووالدته آرنامير في مخيَّم جنين تحت اسم “مسرح الحُرِّيَّة”..

فبكت السَّماء بكاءً مستغيثًا من غيثِ سحابها، وبكى شاعرنا محمود درويش حين قال:

           يَحْكُونَ فِي بِلادِنا

          يَحْكُونَ فِي شَجَن

          عَنْ صَاحِبِي الذِي مَضَى

          وَعَادَ فِي كَفَن

لقد علَّق أحد الحاقدين من على موقعٍ إسرائيليٍّ الكترونيٍّ على خبر الجريمة، كاتبًا: انتهى جوليانو..وأقترح على جدعون ليفي (محرِّر تقدُّمي جدًّا في صحيفة هآرتس ومساند عنيد ومثابر للقضيَّة العربيَّة العادلة) أن يشغَلَ هذه الوظيفة الشَّاغِرة للتَّطوُّع..” وأَظْهَرَ موقع “الجزيرة” الإلكتروني هذا الحقد نفسه حين كتب عن هذه الجريمة على لسان أحد “القادة” في المحيَّم: “بعض العروض التي يقدِّمها مسرح الحرِّيَّة في مخيَّم جنين لا تلاقي قبولاً في أوساط سكَّانه، وخاصَّةً بعض اتِّهامات بالتَّطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي وجِّهت للمسرح سابقًا، بالإضافة إلى تقديمه عروضًا أكثر تحرُّرًا مما اعتاد عليه الأهالي”، وبعد ذلك أعطى الموقع لمحةً عن المناضل المغدور: “..وخميس وُلِد لأمٍّ يهودية تُدعى آرنا وأب فلسطينيٍّ من الناصرة هو صليبا خميس، وكان من أكبر النَّاشطين السِّياسيِّين بالحزب الشُّيوعي”  وهناك من ادَّعى أنَّه قُتِل لأنَّه يهوديٌّ..وهل هذه الأسباب تبرِّر القتل! ومن منح القاتل هذا الحقَّ الباطل، فلا أحد يحقُّ له قتل نفسٍ، كما جاء في الآية الكريمة ﴿..وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا..﴾.

لقد تعانق موقع “الجزيرة” مع أصوات اليمين الإسرائيلي تحت إشراف المجرم القاتل بانسجامٍ تامٍّ ليعزِفوا نشيد التَّحريض المُغرِض عليه..لتقتله مرَّةً أخرى. لقد كان القتل متعمَّدًا وعن سابق إصرار، ضاربًا بعرض الحائط أنَّه قَتَلَ إِنْسَانًا، كما قال البطل تشي جيفارا لقاتليه:”أَطْلِقْ النَّارَ، لا تَخَفْ، إنَّك بِبَساطَةٍ سَتَقْتُلُ مُجَرَّد إِنْسان”، فكيف نصمت عن الجريمة وقد جاء حديث الإمام الصَّادق:”العَامِلُبِالظُّلْمِ وَالرَّاضِي بِهِ وَالمُعِينُ لَهُ شُرَكاءٌ ثَلاثَتُهُم”.

لقد قدَّمَ القاتل، الذي يمثِّل نهجًا قامِعًا وحاقِدًا وساقِطًا، رأس جوليانو مير خميس على طبقٍ من بلُّور لليمين الإسرائيلي الذي سعى دائمًا ويسعى جاهِدًا إلى كبت الصَّوت المنادي والمناشد للسَّلام العادل والحُرِّيَّة ودحر الاحتلال وعودة اللاجئين، تمامًا كما قدَّم القاتل هيرودس على الطَّبق نفسه، رأس يوحنَّا المعمدان لصالومة كي تقدِّمه هديَّة لأمِّها هيروديا، حيث كان هدفها إخراس صوت الحقِّ الصَّادر منه، والانفراد بالمملكة دون مراقبة أو انتقاد، مع أنَّ القدِّيس يوحنَّا كان يعلمُ أنَّ طريقه عسيرٌ وأنَّ ثمنه باهظ.

قال لينين: “أَعْطِنِي مَسْرَحاً أُعْطِيكَ ثَوْرَةً” ومن أغتال الفنَّان المسرحي جوليانو أراد قتل الثَّورة والتَّحرُّر والصَّوت الحرِّ والعدلِ، لكنَّه لن ينجح في إخماد وهدم ما بنُِيَ لأنَّ “أَوْلادَ آرْنا” مخلصون لطريقهم، وأقسموا قسم العهد والوعد بالبناء والبقاء والعطاء والوفاء لهذه الدَّرب التي بناها جوليانو مير خميس تباعًا لما بنته والدته آرنا..

وهكذا رُحِّل جول خميس (أذكره بهذا الاسم منذ أن كان زميلي على مقعد

لدِّراسة الابتدائيَّة، مدرسة الأخوَّة – حيفا) من أرضنا ومن وطننا ومن هوائنا ومن سمائنا ومن بيتنا ومن مظاهراتنا التي كانت تُزعجهم في راحتهم، رُحِّلَ ولن يعود، لكنِّي أدعو أصدقاءه، كما دعاهم الشَّاعر محمود درويش:

        يا أَصْدِقاءَ الرَّاحِلِ البَعِيدِ

        لا تَسْأَلُوا: مَتَى يَعُودُ

        لا تَسْأَلُوا كَثِيرًا

        بَلْ اسْأَلُوا: مَتَى

         يَسْتَيْقِظُ الرِّجَالُ!

شُلَّت يد الغدرِ والقهرِ والشَّرِّ..

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*