أُمَيَّة – د. خالد تركي حيفا

(بعد غيابٍ دام أربعين غروبٍ وشروقٍ للشَّمس)

“لا أقلَّت الغبراءُ ولا أظلَّت الخضراءُ أصدقَ..” مشاعر من تلك الجموع الغفيرة التي أتت مُحتشدةً، حزينةً، باكيةً وناحبةً، من كلِّ حدبٍ وصوب، من كلِّ أرجاء الوطن، ومن جميع الإنتماءات الطَّائفيَّة، من الجولان العربيِّ السُّوريِّ المحتلِّ إلى الجليل الأشمِّ، ومن عاصمته، النَّاصرة وقضائها، ومن حيفا وقضائها ومن كرملها الغالي، كذلك أتت جموعٌ من منطقة المثلَّث، أتت لتُلقي نظرتها الأخيرة، على أُميَّة، نظرة الوداع، وهي مسجَّاة، في مكانٍ مقدَّسٍ وسط مدينة حيفا، في حيِّ وادي النِّسناس، كنيسة مار الياس للرُّوم الملكيِّين الكاثوليك، وما أكثر أماكن حيفا المقدَّسة، كذلك ما أصدق تلك الجماهير التي أتت لاحقًا معزِّيةً، مشكورةً، على مشاركتنا بهذا المصاب الأليم والحادث الجلل الذي سقط على رؤوسنا كالصَّاعقة بدون صاعق..

لقد أخذتَ وديعتك باكرًا، يا ربَّ الودائع، لماذا!

وأعرفُ أنَّ ودائعك لا تضيعُ البتَّة..

“قَد استُرجِعَت الوَدِيعَةُ، وأُخِذَت الرَّهِينَةُ ..، فَمَا أَقْبَحَ الْخَضْرَاءَ  والْغَبْرَاءَ..” دونك يا أُميَّتي..

لماذا غيَّبتَ عنَّا نجمتنا، وتركتنا دون ضوئها، يا ربَّ النُّجوم..

لكنَّنا، في يوم غيابها، وبِشارةٍ منكَ، أتَتْنا البشارة، رأينا نجمةً جديدةً في سماء حيفا، فوق الميناء، يسطعُ نورُها وأصبحنا نراها كلَّ يومٍ، ليلاً، ونُشير لها ببنانِنا..

إنَّها النَّجمة أُميَّة، إنَّها أُميَّة النَّجمة..  

نجمتُنا أنتِ يا أُميَّة..

“يا نجمةً تَدمى لها العيْنان”

قمرُنا انتِ يا أُميَّة..

و”كلُّ البنات نجومٌ وأنت قمرهم..”

أنتِ نجمتُنا وقمرُنا..

أنتِ خيمتُنا التي نستظِلُّ بها من الَحرِّ المُحتدمِ، ومن لهيب الشَّمسِ وأوارِها، ونحتمي بها من البرد القارص والصَّقيع القارس والشِّتاء الماطر..

كنتِ مستشارتنا في كلِّ التَّفاصيل الحياتيَّة، كنتِ ملجأنا فلمن نلتجئ اليوم، بعد أن نمتِ على الشَّاطئ بعيدًا..

“أين الهموم أحطُّها يا سلوتي يا قِبلةَ المثقولِ بالأحزان”

لا ألومكِ بعد أن رُمتِ الغيابَ، وتركتِنا وحدنا، دون استئذانٍ وبالتَّأكيد، كان الإختيار مكروهًا، مفاجئًا لكِ ولنا، لقد تركتِنا، وانتِ في عزِّ العطاء، ليش هيك الدُّنيا..

أسرعتِ في رحيلك، فما زال أمامنا “ما نعملُ” لكنَّ غيابك سبق عملنا..

كنَّا معًا قد رفعنا لواء العبور إلى شاطئ الأمان، وكدتِ تعبرين أنواء البحار العاتية بسلام، لكنَّ النَّوَّ الأخير كان أقوى منَّا، باغتَنا، على حين غرَّةٍ في يقظَتِنا، فقتلَتكِ الأنواء، قتلتكِ على حين غفلةٍ منَّا، غيلةً، فبئس الغيلةُ وبئسَ الخديعة..

كيف ألومكِ وشارة النَّصر التي كنتِ ترفعينها دومًا، بيدك الثَّابتة، لا تُبارحكِ، مع ابتسامة ترسمينها على محيَّاك في كلِّ لقاءٍ لنا، يوميًّا ساعة غروب الشَّمس، التي كانت تذهب لتنام ملتحِفةً مياه البحر وامواجه وعينها الوحيدة الحمراء تراقب

الغمام، فبعد الغمامِ شمسٌ، فهل يأتي الفرج!

لكنَّ تلك الشَّمس قهرت محبِّينك وحرقت قلوبهم بعد أن اختارتك أنتِ، أنتِ بالذِّات، بهذا اليوم، من نهاية شهر حزيران، لتكوني عروستها، إصطفتك أنت لتكوني “عروس النِّيل”، إختارتك أنتِ لأن تذهبي معها لتخلُدي للنَّوم في فجر ذلك اليوم، على شاطئ الكرمل، بدلاً منها، لأنَّها كانت تجهِّزُ نفسها للشُّروق، كانت مناوبتك في ذلك اليوم، للنَّوم..

نامي قليلاً يا حبيبتي ويا رفيقتي وشقيقتي، فَلَكِ منِّي دمعتان ووردة..

نامي قليلاً فنحن على موعدٍ في لقاءٍ حميمٍ، عزيزٍ وودودٍ بعد زمنٍ..

يقول الإمام عليٌّ في رثاء زوجته فاطمة الزَّهراء:

لا خيرَ بعدكِ في الحياة، وإنَّما أبكي مخافةً أن تطول حياتي

“مشتاقينلك”..

“..في مَوقِفِ الحَشرِ نَلقاكُم وَتَلقونا”

لن أرثيك، يا حبَّة عيني، فأنتِ ما زلتِ معنا، تتقمَّصيننا، ونراك بيننا وفي نفوسنا ﴿..المطمئنَّة..﴾، دومًا، وإن غبتِ عنَّا حينًا، ستبقين أنتِ في قلوبِنا كلَّ حين، في بيتنا، في حيِّنا، في حيفانا وكرمِلنا، في جليلنا من أسفله إلى أعلاه ومن شرقه إلى غربه، تبقين معنا في كلِّ بلادنا، فأنتِ بضعة منَّا وقطعةٌ منَّا ونحن بضعةٌ منك وقطعةٌ منك، أُميَّة منَّا ونحن من أُميَّة، فمهما طال غيابُك عنَّا فستشرِّفيننا بمجيئك إلينا، إلى هذه الأرض، إِنَّا على موعدٍ أكيدٍ في يومٍ ﴿..لا ريبَ فيه..﴾، سنلتقي معك بجاه ﴿..جامع النَّاس..﴾..

نيَّالو يا اللي ذاق خبزاتك، طبخاتك، كعكاتك، مُعجَّناتك وحلويَّاتك ونيَّالو يا

اللي ذاق كلَّ ما خرج من تحتِ ديَّاتك..

تقول العرب إن أطعمتَ فأشبِع، هكذا كنتِ يا أُميَّة، أشبَعْتِ كلَّ من أطعمْتِ، إنَّ هذا السِّرَّ معروفٌ، ومعروفٌ أنَّ من يكون أكله شهيًّا، تكون “نفسو طَيْبة”، يكون كريمًا سخيًّا، وهَّابًا وهُمامًا، ذا ذوقٍ رفيعٍ، مثالاً في الجود والجودةِ والجواد، تُعطي من كلِّ قلبِها كلَّ قلبِها..

عشنا خمسة عقود وستَّة أعوام، سويَّةً، “روحي وروحك حبايب” روحٌ واحدة، تقاسمنا بها حلوَ الحياة ومرَّها، افراحها واتراحها، تقاسمنا عذاب الدُّنيا وراحتها، آلامها وهناءها، وكم تمنَّت نفسي أن أقاسمك هذا الهمَّ الأخيرَ، كما تقاسَمنا في حياتنا “الآلام والرَّهقا”، لأخفِّفَ عنكِ وعليكِ من ثقله وأوازرك على أعبائك وأعاونك وأساعدك على تجاوزها، كي لا تكوني في الصِّعاب وحدَك، ولكي يكون الحِمل الثَّقيل، حِملاً خفيفًا أقلَّ وطأةً عليك، لكنَّ ﴿لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا..﴾، فحملتِ ما كُتِبَ عليك ولك، وحدَك، إنَّها سُنَّة الحياة عزيزتي..

آهٍ يا وحدكِ..

 كنتِ في حياتك مناضلةً من أجل حياةٍ حرّةٍ كريمةٍ وعزيزةٍ فكنتِ أمًّا رؤومًا، رؤوفًا وحنونًا، كنتِ سندًا داعمًا وعونًا نصيرًا وأختًا مثاليَّةً رائعةً، أحببتِ الجميع والجميع بادلك هذا الحبَّ، فكنتِ مثالاً للمرأة العِصاميَّة التي تتحدَّى الصِّعاب، فقد وضعتِ نصب عينيك اجتياز كلِّ معضلة أو مرحلة مهما كانت صعبةً، وكان النَّصر حليفكِ وحليف أبناء عائلتك الكرام، فرسمتِ لهم طريق العزَّة والكرم والأصالة، فكان لفوزي وسماهر ومجدولين الشَّرف المروم، بما دون النُّجوم، في برنامجهم النُّجوميِّ فوزي موزي وتوتي، لقد كنتِ مرتعًا للطَّمأنينة والسَّكينة والسُّكون، للكبير والصَّغير وقد شحنتِهم بالتَّفاؤل والأمل والايجابيَّة والحبِّ للحياة، بقناعة أنَّ الشِّدة مهما كانت عظيمةً فهي حتمًا إلى زوال..

ما في شِدَّة بتدوم، والدَّوام لسيِّد الدَّوام الغفَّار ﴿..الحيُّ القيُّوم..﴾..

أُميَّة “لم تبتعد يومًا عن آلام شعبها فكانت مخلصةً للمبادئ التي تربَّت عليها، مبادئ الأمميَّة والعدالة الاجتماعيَّة” مبادئ أخوَّة الشُّعوب بحقِّ الشُّعوب، فناصرَت قضايا شعبها وقضايا الطَّبقة العاملة ووقَفت إلى جانب الشُّعوب المضطَّهَدَة دومًا، ولم تحِد قيد أنملة عن التَّربية والثَّقافة التي نشأت عليها في بيتنا، وفي روضة “حركة النِّساء الدِّيمقراطيَّات” وفي “منظَّمة أبناء الكادحين” و”الشِّبيبة الشُّيوعيَّة”..

لا أظُنُّ أنَّ هناك في حيفا من يحمل اسم أُميَّة، حيث يجوز للإسم أن يكون اسم علم مؤنَّث أو مذكَّر، وإن وُجِدن/وُجِدوا فهُم/فهُنَّ قلائل، يُعدُّون على عدد كفِّ اليد الواحدة، وعندما كانوا يُنادونها أميْمة، كانت تستغيظ غضبًا، وتفسِّر لهم أنَّ اسمها أُميَّة، وأبُ الأمويِّين هو أمية بن عبد شمسٍ بن عبد مناف، وأُميَّة من بني أُميِّة، من بطون قريش، بناة الحضارة الأمويَّة الإسلاميَّة العريقة، في مشرق الوطن العربيِّ ومغربه وفي الأندلس الحزين العزيز، ويسألونها من أين لك هذا الأسم وأنت مسيحيَّة، وحتَّى المسلمين قلَّما يحملون هذا الإسم، فتُجيبهم قبل أن أكون مسيحيَّة، أنا عربيَّة من  أقحاح العرب، خالصة من الشَّوائب والدَّنس، وإن سألتَ أكثر، سأُوتيك أسماء والديَّ وإخوتي: والدي ابراهيم ووالدتي سعدى، وإخوتي هم وضحى وخالد ورفيقة ورلى فآتني بمثل هذه الأسماء..

ما أصعب أن تفقدَ شيئًا منك، والأصعب أنَّك تعرف أنَّ فقدانه أبديٌّ، لا رجعة فيه ولا يمكنك استرداد ما كنتَ قد خسرته، ويبقى وسواسك الوحيد، هو كيفيَّة استرداد هذه الخسارة، إنَّها بديهيَّة الوجود، لا أمل لك بذلك..

لن أرثيكِ فانتِ ما زلتِ بيننا، وإن غبتِ جسدًا..

لن أرثيك فأنتِ حيَّة بيننا، يا حبَّة عيني..

لقد كانت فترةُ الكورونا صعبةً علينا، كنتُ أزورها، من وراء الكِمامة، وعلى بُعد

أكثر من مترين، دون قُبلٍ، نتداول أطراف الحديث، بعد أن كانت تدعونني لاحتساء القهوة، أو لأُحضر لها استمارات العلاج والفحوصات التي كان عليها إجراءها في المستشفى، الذي كان يحلو لها أن تسمِّيه المشفى، تأكيدًا منها على أنَّها ستُشفى من ذلك الملعون، وأملاً منها أنَّ كلَّ من دخله شُفِيَ وصحَّ وتعافى..

لكنَّني استطعتُ تقبيلها قبلة الوداع الأخيرة، في لقائنا الأخير، لقاء الوداع قبل نومِها الدَّائم..

نامي قليلاً يا شقيقتي، لعلَّ غيابك المفاجئ عنَّا، فيه حكمة من الحكيم، لا نفهمُها نحن البشر ولا نعرفُها، “يا ربِّي إيه العمل..دي حكمتك” لذلك نرى هذا الغياب صعبًا، فلو عرفنا إن كان لهذا التَّغييب سبب، يَبطُل العجب..

ننتظر من يعود من هناك لنعرف سرَّ الغياب، “مَا بَالُ النَّاسِ يَذْهبُونَ وَلاَ يَرْجِعُون، أرَضُوا فَأَقَامُوا، أمْ تُرِكُوا فَنَامُوا..”.

نامي يا حبيبتي، الأميرة النَّائمة، قليلاً، فإنَّا على موعدٍ، مع الأمير وننتظر نفحَته لتقومي..

“رحلَت بهائجُنا وجنَّةُ دارِنا”

عليكِ منِّي، سلامُ الله ابدًا، ما بقيتُ وبقي الليل والنَّهار..

عليك منِّي سلامُ اللهِ يا أُميَّتي ويا سلوتي ويا حُلوَتي..

عليكِ السَّلام والرَّضوان والسُّلوان..

لن أرثيكِ ولن أبكيكِ لأنَّ ميراثك في عملك الصَّالح وفي سيرتك الطَّيِّبة وفي محبَّتك للنَّاس، لكلِّ النَّاس..

شُكرًا لمن واسانا وعزَّانا وأخذَ بخاطرنا ووقف معنا وإلى جانبنا في هذا المُصاب الجلل

الأليم، ولكم ولكنَّ جميعًا من بعدها طول البقاء..  

وليكُن ذكرُ شقيقتي أُميَّة خالدًا ومؤبَّدًا..

وعُذرًا منكم لغيابها..

Post Tags:

Total Comments ( 1 )

  • وضحى من حيفا says:

    اثلج قلبي مقال دكتور خالد ع الغالية امية وسط العقد ودرة التاج الذي يوضع فوق وهكذا كانت امية كلامها صادق لا تخاف العتب لاتخاف الشماتة صريحة في كل سيرة حدثتنا اياها . كما قال الدكتور ستبقى ابداً في فكرنا شكراً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*