مجزرة كفر قاسم بقلم اسكندر عمل

وما زلنا نقاوم
في التّاسع والعشرين من تشرين الأوّل العام 1956 بدأ العدوان الإسرائيلي على مصر وتلاه في اليوم التّالي عدوان بريطانيا وفرنسا.
وقد بدأ الهجوم بعد ظهر ذلك اليوم، وكانت قوات الجيش الاسرائيلي قد فرضت منع التجول على قرية كفرقاسم بعد أن كان السكان قد غادروا الى اعمالهم، ولم يدر أهل كفرقاسم الذين كانوا خارجها او في حقوقها بالامر. وعندما عادوا الى القرية استقبلهم الجيش الاسرائيلي برشاشاته وتحولت كفرقاسم الى بركة من الدماء، لقد نفذوا فيها مجزرة بلغ عدد ضحاياها ثمانية وأربعين من رجال ونساء وأطفال. وقد ذكر شعراؤنا هذه المجزرة في اشعارهم بالم ومرارة، لكن بروح لا تقبل الهزيمة فمثلاً الشاعر سميح القاسم يقول :
سيدي!
يا واهب النار لقلب وجديلة
سيدي!
يا ساكب الزيت
على موقد أحزاني الطويلة
سيدي!
دعني أهنئك على يوم البطولة
عش لعدل لا يضاهى
أيها القيصر عش
ثمن الخمسين.. قرش؟
أنت يا مولاي رحمن رحيم
والذي يغضب من عدلك يا مولاي
شيطان رجيم
والذين يحزن مخدوع.. ومن
ينزف الأدمع
موتور لئيم..
سيدي يا قيصر العصر الجليل
كل ما قلناه يا هذا قليل
والذي في القلب.. في القلب
ومن جيل لجيل
وإلى أن يبعث النهر
وتشدو في أغانيّ الحمائم
أملأ الدنيا هتافا لا يساوم:
كفر قاسم
كفر قاسم
كفر قاسم
دمك المهدور ما زال
وما زلنا نقاوم!
يوجه الشاعر سميح القاسم كلامه الى حكام اسرائيل المسؤولين عن المجزرة بلغة مليئة بالهزء النابع من قلب مكلوم دام، ويقول هازئاً يا “واهب” لكن أي هبة، احراق لقلوب بشرية وجدائل “فتيات عربية”، انّك بهذا تسكب على موقد احزاني، احزان النكبة والتشرد التي رافقتني سنوات طويلة، تسكب عليها زيتاً فتزداد استعالاً.
يستمر الشاعر في مخاطبته للقتلة آخذاً صوراً لطغاة قبلهم كنيرون وكسرى.
يهنئ قيصراً على انتصار وبطولة، أي إنتصار أي بطولة على رجال عزل ونساء وأطفال. ويتهكم شاعرنا على العدالة الاسرائيلية، تلك العدالة التي لا تضاهى، ثمن خمسين شهيداً قرش. وذلك القرش الذي نحرم به شيدمي لمسؤوليته عن المجزرة.
ثم يستمر في الحديث عن “رحمة” القتلة وعن عدلهم، ويقول عن طالب الثأر منهم ان “لئيم” وهذه الطريقة الهازئة هي اكثر ايلاماً لمن يحس ويشعر.
ان ما قلناه قليل وهناك امور في اعماق القلب لا تمحى، والى ان ننتصر على الظلم سوف املأ الدنيا هتافاً لا يقبل المساومة. كفرقاسم كفرقاسم دمك لا زال مائلاً امام اعيننا ونحن مستمرون في النضال والمقاومة.

أزهار الدم
لا تدفني موتاك!
خليهم كأعمدة الضياء
خلي دمي المسفوك
لافته الطغاة إلى المساء
خليه ندا للجبال الخضر
في صدر الفضاء!
لا تسألي الشعراء أن يرثوا زغاليل الخميله
شرف الطفولة أنها
خطر على أمن القبيلة
إني أباركهم بمجد يرضع الدم و الرذيلة
و أهنيء الجلاد منتصرا على عين كحيلة
كي يستعير كساءه الشتوي
من شعر الجديلة
مرحى لفاتح قرية
مرحى لسفاح الطفولة
يتوجه الشاعر محمود درويش الى كفر قاسم الذبيحة طالباً منها ان لا تدفن موتاها، قائلاً لها اتركيهم كالأعمدة الشامخة المضيئة (شموخ الشرف)، اتركي دمهم المسفوك لافتةً مرفوعةً عالياً، إجعليه عالياً يطاول الجبال الخضراء شموخاً كي يكون شاهداً على عمق الجريمة.
كذلك يطلب منها ان لا تسمح للشعراء وان لا تطلب منهم ان يرثوا اطفالها الشهداء الذين يشبههم بزغاليل صغيرة في حديقة غنّاء. لا ترثوا الشهداء لان شرف استشهادهم هو في بقائهم خطراً على امن اؤلئك القبليين بتعصبهم وشراستهم، الذين وصلوا الى المجد ولكن أيّ مجد، مجد تغذى بدماء القتلى واعمال العار والرذيلة. انتصروا انتصاراً ساحقاً، جلادهم انتصر ولكن على من؟ على عين فتاة بريئة قتلها الجلاد كي يصنع من جدائلها كساءً لشتائه، ثم “يحيّي” الشاعر القتلى باستهزاء و”يحيّي” ذلك الفاتح العظيم الذي فتح قرية كاملة، قريةً مسالمة لا سلاح فيها ولا جنود، و”يحيّي” ذلك السفاح الذي ابرز بطولاته وقدراته على القتل فقتل اطفالاً ابرياء واستحق بجدارة أن يلقب ب” سفّاح الطفولة”

إنّني مندوب جرح لا يساوم

كفر قاسم
أنّني عدتُ من الموت لأحيا لأغنّي
فدعيني استعر صوتي من جرح توهّج
وأعينيني على الحقد الّذي يزرع في قلبي
عوسج
إنّني مندوب جرح لا يساوم
علّمتني ضربة الجلّاد
أن أمشي على جرحي
وأمشي ثمّ أمشي وأقاوم
الشّاعر محمود درويش يعود بعد المأساة ليحيا ليعيش من جديد ليغنّي، لم ينجح الجلّاد في تحطيمه. بأيّ صوت يغنّي؟ بصوت متوهّج متألّم استعاره من جرح عميق توهّج، جرح كفر قاسم الّذي لم يلتئم والدّماء لا تزال حارّة في تدفّقها. إنّ مجزرة كفر قاسم تملأ قلب الشّاعر بالحقد، الّذي يخز أعماق قلبه كالشّوك. ويعرّف الشّاعر نفسه بأنّه مندوب عن هذه الجراح وممثّل يتكلم باسمها وهو لا يساوم على حقّه وحقّ جرحه، ويضيف أنّ ضربات الجلّاد البربري علّمته أن يسير رغم الجراح وأن يتابع المسيرة النّضاليّة رغم الألم والنّزف، أي أنّ ضربات الجلّاد لم تنجح في هدفها وهو اخضاعه وإذلاله وطرده، بل على العكس أصبح أشدّ مقاومة للظّلم والقهر وسار دون كلل أو تعب.

كفر قاسم والحيّة الرّقطاء
قال الشّاعر الفلسطيني سالم جبران:
يا أمّتي الثّكلى بنوك كلّهم في مهجتي
وأكره البكاء
أكره أن أجثوَ على القبور والجزّار
يسحب حقل الأرض من تحتي
ويعطي للرّياح الدّار
يا أمّة تنبّهي
فلا تزال الحيّة الرّقطاء
عطشى إلى الدّماء
يخاطب الشّاعر هنا الشّعب الفلسطيني الّذي ثكل أولاده في مجزرة كفر قاسم ويقول إنّ هؤلاء الأبناء جزء من شعوري وأحاسيسي وهم مهجتي لكنّي لا أبكي، لا لأنّي لست حزيناً، بل لأنّي أكره أن أركع على قبور الشّهداء وأنسى أنّ الجزّار الّذي ارتكب الجريمة مستمرّ في تخطيط جرائم أخرى، فهو يريد أن يسحب الأرض من تحت قدميّ ويطردني من الدّيار إذا ما انشغلت، فالشّاعر متنبّه لعمق
الجريمة ولأبعادها ويطلب من شعبه أن ينتبه، أن يتوقّف عن البكاء، ويحذّر لأنّ الحيّة الرّقطاء الّتي لدغت أبناء كفر قاسم الأبرياء لم ترتوِ بعد ولا زالت ظمأى لمزيد من دماء هذا الشّعب.

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*