اليوم عُلّقت حيفا… – د. ماجد خمرة

هل سقطت حيفا؟ هل ” راحت ” حيفا؟ هل “هنا حيفا؟ ” هل لنا ان ننزلها عن صليبها؟

قيلَ ” سقطت القرى والمدن في فلسطين وفهمنا، اما حيفا أم الغريب تسقط؟ كيف هذا وهي المدينة البحرية والجبلية الكرملية الجميلة والتي كادت تصبح كوسموبوليتية، وأم أكلات السمك والصيادية الحمرا والبيسارة والمُقرة باللبن ….. تسقط؟؟ عجباً! إن لله في خلقه شؤون!!!

هل ماتت والدتي ” زهرة الوادي ” وهي راضية مرضية بنفسها تعانق في كفر سمير تراباً يلامس بحرها العزيزيّ؟ ويلامسها هواء من تلال الكرمل باحمديّته ومن قرار وجواب آذان مسجدها المحموديّ على أنغام النهاوند والحجاز؟

هل سيأتيها في قبرها حديث أهل طيرة اللوز المجاورة مع قافهم المفخمة ليقصوا علينا من سفر دهورهم عن ذاك الحريق والمحرقة التي ارتكبتها الايدي الغاشمة والناس أحياء؟!

اختلطت يا أماه أيام الفصح هذه السنة، فالفصح من ذاك الشهر وذاك العام، حين لم تتجاوزي أنت الـ 14 عام كان عبرياً، أما اليوم فهو خليط من ” فصوح ” الروم الكاثوليك والارثوذوكس والعبرانيين ومن رمضانيات السُنّة والمتوالة الحيفاويين ليتثالثوا في ثالوث أقدس مقدس. ومهما كان هذا المزيج مقدسا ففي قبرك الذي وُضعت فيه تندثر لغة الجناز والقداديس لتحدثينا وتنطقين بلغة حيفا ونكبتها وبلهجة حيفاوية مميّزة تنبعث منها رائحة الحياة والصمود.

في مثل هذا اليوم عُلقت انت وغيرك عل خشبة رومانية الشكل لم يكتب عليها بيلاطس ” يسوع الناصري ملك اليهود “، بل كتبها بن غوريون وبالبنط العريض ” إرحلوا! ” …. لم نرحل لأننا باقون.

تبدلت حيفا بأناسها وبفسيفسائها البشري، ولم تنجو شوارعها وبناياتها من التغيير تحت طائلة التجديد، وبات الجيل الجديد من عربها يكاد لا يعرف شيئا مما كانت عليه. فجدير بنا خوض معركة الأسماء ليس تشبثا بالماضي والبكاء على الاطلال بل لنستلهم من الحاضر ومن ثم الى المستقبل.

بدأت أجيال النكبة بالرحيل الى السماء تاركة لنا هذا الحمل الثقيل لننقل الرواية ونورثها للأجيال القادمة. على ما يبدو ان عزائنا الوحيد هو وجود بعض من الشباب الواعد الذي أخذ المهمة على عاتقه ومن موقعه يناضل على المسميات والوقائع والحقائق، ليست كنداً للرواية الأخرى وحسب، بل للحفاظ على الإرث التاريخي والوثائقي على أسس علمية. فأرشفةوثائق الملكية العربية للمباني التاريخية وصيانتها لهي خير دليل على ذلك. 

أيها الحيفاويّ، عندما تطأ قدميك الثرى وأديم الأرض في البلد التحتى، ترفّق في تلك الأجساد التي عاشت في تلك الرقعة الزمكانية من عامود فيصل الى ساحة الخمرة (الحناطير)، وكأنك تدوس على ارواحهم الجسدية، رقعة تبخرت بمن فيها من عائلات حيفاوية لم يعد لها أيّ ذكر في سفر الدهور. 

أن ملف نكبة حيفا ما زال مفتوحا، لم يُغلق بعد، حتى لو أغلقته مؤسسات الدولة العبرية منذ قيامها محاولة الاعتماد عل تآكل الذاكرة لدى الأجيال القادمة. فالذكرى والذاكرة مخروطة في نفوسنا وقلوبنا وعقولنا، نستلهمها كأصحاب حقّ في هذه المدينة، لنا الشرعية التامّة بإعادة كتابة تاريخنا، محطّ فخرنا واعتزازنا، نشمخ به ونواجه من نواجه بقوّة الحقّ والبرهان.

د. ماجد خمرة 

نيسان 2022

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*