من لا زيتون له فلا قبر له ولا وطن – جواد بولس

“رَجلٌ وخِشْفٌ في الحديقة يلعبان معًا… أقول لصاحبي: من أين  جاء ابن الغزال؟ يقول: جاء من السماء… نام في قبر الغزال.. وصار لي ماضٍصغيرٌ في المكان: رَجلٌ وخِشْفٌ في الحديقة يرقدان”.

محمود درويش إلى سليمان النجّاب.

 لم يسمع، على الأغلب، معظم القرّاء باسم القرية الفِلَسطينية الصغيرة “جيبيا”؛ فأسماء القرى في فِلَسطين تجيء دائمًا كهمزة على لسان الأثير، وترحل كمُضافة إلى أسماء شهداء سقطوا على أراضيها، أو كاسم خرافيّ لمسرح شهد ترابه آثار جريمة اقترفها جند، يعيشون في الخرافة والأساطير، بحقّ السكّان الفِلَسطينيّين الأبرياء والعزلّ. هكذا تُحفر الجِغرافيا في فِلَسطين، خرائط من نار ولحم وطين؛ وهكذا يتردّد التاريخ صورًا من الدهشة تُحشر في صدور الناس وتنتقل معهم أنّى حملت نعالهم كلّما نفثت “روح حضارة” الغازين نيرانها وألقتها حممًا في وجوه أطفالهم؛ حينها فقط، حينها تصير، مثلًا، قرية “حوّارة” كنية للدم ومعنًى مستساغًا للعبث، وتصبح “ترمسعيّا والساويةوبيتين وقُصْرة” وأخواتهنّ مجرّد مفردات للقهر المعلّق على صفحة الريح، وللخوف الذي له في فِلَسطين ألف ألف وجه، يتكاثر كالعثّ في خوذات الجنود وفي فوّهات بنادق المستوطنين. 

تعرّفنا، عندما كنّا طلّابًا يساريّين جامعيّين، في منتصف سبعينيّات القرن المنصرم، اسمَ قرية جيبيا لصلتها باسم أحد أبنائها البررة، القائد الشيوعيّالفِلَسطينيّ الراحل سليمان النجّاب. كنّا نؤمن، في ذلك الزمن النضير، أنّ أجمل الألوان هو الأحمر؛ فالفجر أحمر والحقّ أحمر والحبّ أحمر والحرّية حمراء. وكنّا نعشق أولئك الذين “سقوا الفولاذ” ولم يخشوا “أعواد المشانق”، فأحببنا الرفاق من أين حلّوا، خصوصًا المناضلين منهم، وكان ابن جيبيا واحدًا منهم. لقد اعتقلت قوّات الاحتلال الإسرائيليّ سليمان النجّاب سنة 1974، وأبقته  وراء القضبان مدّة عام، واجه فيها أعتى صنوف التعذيب والقمع أسوة بمعظم الأسرى الفِلَسطينيّين الذين كانوا معه حينها وعوملوا بالقساوة نفسها التي قامت محامية الدفاع عنهم اليهودية الشيوعية ﭬـيليتسيا لانـﭽـر بتوثيقها، في كتابها الأوّل “بأمّ عيني”.

اُختير سليمان النجّاب عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظّمة التحرير الفِلَسطينية عام 1984 وركّز اهتمامه، بشكل خاصّ في نهاية العام 1987 مع انطلاقة الانتفاضة الأولى، على دعم لجان الدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان.

تذكّرت هذا الجزء من تاريخ الأرض ونحن في عزّموسم قطف ثمار الزيتون وأخباره الثقيلة ترِدُنا من كلّ قرية وناحية. فمن يتابع الأخبار سيكتشف واقعًا مستفزًّا وخطيرًا، وأنّ المستوطنين، بمساندة جيش الاحتلال، نجحوا، بوسائل إرهابية، في إخافة أصحاب الأراضي في قرًى فِلَسطينية عديدة، حتّى صار الكثيرون من هؤلاء الفلّاحين يؤثرون عدم الاقتراب من أراضيهم والتنازل عن حقّهم في قطف زيتونهم، متجنّبين مواجهة سلاح المستوطنين الذي أدّى، مؤخّرًا، إلى إصابة وقتل بعض من تجرّأ على  الاقتراب من أرضه متحدّيًا عربدتهم ونيران بنادقهم. 

 لسنا في صدد ولادة ظاهرة جديدة؛  فمنذ عدّة سنوات ونحن نشهد كيف صعّد المستوطنون، المدعومون من السياسيّين والحاخامات والجيش، هجماتهم على الفلّاحين الفِلَسطينيّين، خصوصًافي مواسم قطف الزيتون؛ ونعرف، أيضًا، ما هي أهداف مخطّطاتهم، بعد أن أقاموا، في سبيل تحقيقها، مجموعات منتظمة تعمل بأساليب عسكرية وتحترف مطاردة أصحاب الأراضي ميدانيًّا وترهيبهم والاعتداء عليهم بشكل يوميّ، وإبعادهم عن أراضيهم والاستيلاء عليها. لم تقتصر هذه الاعتداءات على الفلّاحين خلال مواسم قطف الزيتون، بل كانوا يمارسونها بشراسة مطّردة طيلة أيّام السنة، حتّى نجحوا، أخيرًا، في إجبار العديدين، كما سبق، على عدم الاقتراب من أراضيهم، أو هجرتها تمامًا، تحت تهديد السلاح، كما جرى في بعض المواقع السكّانية، حيث ناهز  عدد هؤلاء المهجّرين، مؤخّرًا، في الضفّة المحتلّة 1332 مواطنًا ومواطنة. لم تتغيّر سياسة الاحتلال الإسرائيليّ التاريخية حِيال المواطنين الفِلَسطينيّين أو  الأراضي الفِلَسطينية، وهي في الواقع سياسة جرّبها ومارسها المستعمرون عبر التاريخ، واعتمدت على أساليب الترغيب المعهودة، من جهة، وعلى أصناف التهديد حتّى بالقتل والقتل الفعليّ، من جهة أخرى؛  فكلّ الوسائل، وفق شرعهم، متاحة ومسموحة. ولكنّ  تاريخ القمع علّمنا، أيضًا،أنّ مثل هذه السياسات ما كان لينجح لولا تضافر عدّة عوامل لصالحها، من أهمّها، في حالتنا الفِلَسطينية، نجاح المحتلّين في زرع مشاعر اليأس والخوف بين المواطنين، وهو خوف من وخوف على: خوف من بطش نيران المستوطنين في غياب سياسة فِلَسطينية مضادّة منظّمة وممنهجة لحماية الأرض الفِلَسطينية والدفاع عنها، على الأقلّ، وفق الاتفاقيّات الموقّعة بين إسرائيل ومنظّمة التحرير، وخوف البعض على خسارة مكاسبهم في غياب حالة نضالية وطنية شاملة متّفق عليها ضمن رؤيةسياسية واضحة وجامعة.

مرّت السنون وتعرّفتُ جيبيا أكثر. كانت قرية صغيرة لا يتعدّى عدد سكّانها مائتي نسمة. لا تعرف أنّها موجودة إل

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*