نادي الأمل الفلسطيني جواد بولس-
- by منصة الراي
- May 25, 2024
- 0
- 287  Views
- 0 Shares
لبّيت يوم السبت الفائت دعوة “جمعية نادي الأسير الفلسطيني” لحضور مؤتمرها الثامن في مدينة البيرة. وصلت قاعة المؤتمر في اللحظة التي كان فيها الحضور منتصبًا بصمت، اجلالا لعزف النشيد الوطني الفلسطيني؛ فوقفت مثلهم وحدّقت في عشرات الوجوه السمراء وعيونها الساهمة تتطلع بصرامة الى الأمام والاكفّ مقبوضة بحرص على الصدور حتى انتهت الموسيقى وعلا التصفيق وعادت القاعة الى ضجيجها الخافت قبل البدء في الجلسة الافتتاحية.
لقد عرف أصدقائي في ادارة نادي الاسير بأنني احاول الابتعاد ، منذ سنوات، عن حضور مثل هذه المناسبات العامة؛ إلا أنهم أحبوا وأصروا أن أكون معهم برسم المودة والاحترام المتبادلين بيننا وإيفاءً للعشرة التي دامت بيني وبين النادي لاكثر من ربع قرن، عملت فيها بداية كمحام ضمن الوحدة القانونية التابعة للنادي ومن ثم مديرا لهذه الوحدة حتى اغلاقها قبل بضع سنوات. لكنني مع مرور السنين صرت أنأى عن وهم المنصات في فلسطين ورتابة ايقاعاتها؛ واخاف أكثر من وجع قد يفاجئني بعد أن شاخت احلامي وانطفأت كواكب ليلي، وكابدت مرارا من رجس الجاحدين وغدرهم. لكنهم دعوني وعرفوا أن صاحب القلب الخافق يحنّ دومًا الى بئره الاولى التي على حفافها تعلّم سورة الظمأ وصار أخا للايائل تركض لتقبض على ذوائب الريح، وصبورا كالسرو ومؤمنا كالسنديان.
كنت في السيارة وحدي والطرق في فلسطين غالبًا لا تنتهي كما يجب ان تنتهي، والسفر فيها يكون مغامرة . كانت طوابير السيارات تمتد امامي كثعبان اسطوري؛ وصافرات بعض المركبات تحاول ان تُسمع الفضاء احتجاجاتها دون فائدة؛ فالجنود على الحواجز، بعد أن “فقأ” الاحتلال قلوبهم، لم يعد يغويهم إلا صوت عصيّهم وهي تنهال على عظام الفلسطينيين أو أزيز رصاصهم وهو يصطاد “الشيرينات”، ولا يحبون النظر الا من منظار فوهة بندقية أو من حدقة عين كلب. كنا نتقدم ببطء شديد نحو الحاجز، وكنت احاول قتل الضجر والغضب باستحضار شريط من ذاكرة، هي بعكس صاحبها، لا تشيخ وتفيض بصور الذين ناضلوا ضد الاحتلال واعتقلوا ودافعت عنها بدءًا من سنة 1980. حدثت نفسي كي تهدأ، فرتل السيارات الطويل يتحرك وفق “رحمة” جنديتين تشعران اليوم كحفيدتي بار كوخبا أو بن غوريون ، بعد ان نصّبهما “الجنرال” حارستين على أمن امبراطورية الشر ومسؤولتين باسمها على وقت الرعايا الفلسطينيين وعلى حرية حركتهم، والتحكم في دخولهم الى رام الله ام لا. حاولت الا افقد اعصابي وأن انتظر بصبر مثلما يفعل في فلسطين كل من يسعى الى رزقه والعمل ويحرص ألا ترديه رصاصة جندي فاشي محموم.
كان في كل مدينة فلسطينية كبيرة سجن ومحكمة عسكرية، وكنا نصلها لنزور الاسرى ولكي ندافع عنهم. كانت فلسطين وقتها محتلة عالمكشوف وكنا نتحرك ونتنقل بين كل المدن والمحافظات بحرّية من غير حواجز، وكان بعد أن حرّرت “اوسلو” أجزاء من فلسطين اصبح اهلها اسرى وعاجزين وصار بعضهم يقضي نصف عمره في انتظار الوهم، مسلحين بقواعد التدجين وصلاة المسافرين ومزامير الصبر ونشيد “لا نلين”. كنت وحدي والفكر سارح ومبتسمًا الى ان وصلت قبل الحاجز مباشرة فقلت لنفسي: هراء.. انت تقول لنفسك هراء.. لقد كانت فلسطين محتلة عالمكشوف وبقيت مختلة/محتلة عالمكشوف، اما اهلها فبقوا كما كانوا احرارا وصابرين ! قلت وخشيت من طيش العاطفة ورتابة الشعار . وعبرنا الحاجز سالمين !
في بدايات عملي كنت أحب صباحات فلسطين، لأنني في كل يوم زرت فيه سجنًا أو محكمة كنت أشعر أن شمس فلسطين تطلع من خاصرة الأرض كي تأذن للحياة وتقول لها: اندلقي نورا على المعمورة، وللرياح انثري في البحر بذور عواصفك؛ وكنت أحب ليل فلسطين لانني كنت ارى في عتمته اقمارها السجينة سابحة نحوي كالمنى وراقصة كالضوء من بعيد. كان ليل فلسطين ستّارا وليس كليل العرب نمّاما؛ وكان ناسها يخبئون تحت جناحه خوابي أوجاعهم وآمالهم، ويحرقون الصلوات بصمت في حنايا صدورهم فتصير في النهارات أعواد نَدّ وبيارق. كنت أسمع أهل فلسطين في السجون وفي المحاكم يروون حكايات عن سيدة كانت تأتيهم في الليالي كحورية من وراء المدى الازرق؛ كانت تسمي نفسها فلسطين. كانت تعدهم بأنها ستأخذهم الى أعراس في سهول ارجوانية، أرضها من ريق السماء، وأسوار حدائقها من ورود وأزهار أحلى من الفل والنرجس، وفيها أشجار من أقمار صغيرة الى جانب أشجار زيتون ولوز وعنب وتين .كان الأسرى يتحلقون في حضنها ويصدّقونها ويَصدقونها وكانوا يحبونها وتحبهم. وكنا، نحن المحامين، نحبهم ونحب فلسطينهم وننتظرها في ليالي الصيف وفي ليالينا الغائمة.
دخلت قاعة الهلال الأحمر الفلسطيني واتخذت بهدوء أقرب كرسي وجدته أمامي مقعدا. التقيت الكثيرين فاستعدنا الذكريات وفرّ الحنين ليحتفي بعودة الدوري الى حافة بئره الاولى.
كان واضحًا لجميع من حضر أن المؤتمر يعقد في ظروف استثنائية، خاصة في ضوء العدوان الاسرائيلي على غزة والتصعيد الخطير في الاعتداءات التي تنفذها ميليشيات المستوطنين وفرق جيش الاحتلال ضد المواطنين في الضفة الغربية المحتلة وفي القدس الشرقية.
لقد خُصّصت جلسة المؤتمر الافتتاحية لكلمات الضيوف الذين أكدوا فيها على أن انعقاد المؤتمر يعكس التزام القيّمين على إدارة الجمعية بالعمل بنهج ديمقراطي سليم وبشفافية، وحيّوا، كذلك، مسيرة الجمعية على عطائها غير المنقطع منذ تاسيسها عام 1993 واستمرارها في تقديم الخدمات القانونية للأسرى ولعائلاتهم ولكونها عنوانا أصيلا وعريقا لقضاياهم ؛ وأكدوا على أن ما يواجهه الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال الاسرائيلي وفي معتقلات الأسر العشوائية ، منذ السابع من اكتوبر، يعكس قرار المؤسسة الاسرائيلية بتنفيذ مخططها “بكسر ظهر” الحركة الأسيرة والقضاء على وجودها ودورها كرافد هام في مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني . فسياسات الانتقام والترهيب والضرب والتجويع والعزل والاهمال الطبي والتضييق على الأسرى بوسائل غير مسبوقة تشكل شواهد على نية الاحتلال ومآربه.
مع انتهاء الجلسة الافتتاحية أُعلنَت استراحة قصيرة استغلها الحاضرون لإتمام طقوس السلام والكلام والعناق؛ فمعظم الحاضرين كانوا رفاق درب واخوة في الأسر ويعرفون بعضهم البعض؛ واليوم اجتمعوا تحت سقف خيمتهم. بقيت في مكاني فتقدم كثيرون نحوي لالقاء التحية والسلام وبعضهم راح يمتحنني فيسألنني ان ما زلت اذكر اسمه. عرفت كثيرًا منهم ولم أتذكر بعضهم، فبعد أربعين عامًا مليئة بالوجع وبالتفاصيل وبالقصص، يحق للعقل أن يسهو وينسى.
تذكرت كيف كانوا يشعرون أنهم أسرى في المجاز، لأنهم عاشوا، في عوالمهم الموازية، بأرواح حرة حتى المطلق. لم يهابوا سجانيهم ولا المواجهة، ولم يخافوا إلا على دمعات أمهاتهم. لقد عشقوا الحرية بدنف غير منقطع وذوّتوها في “جوّاهم”، فلم تغرهم المادة ولا التوافه ولا مكائد السجانين. لم يتمنوا إلا عري الصباح ومعانقة أنفاس الندى النائم على شرفات الذكريات او الساقط من أهداب يمامات احلامهم.
كنت لا اخاف عليهم الا من نسمة شاردة قد تبلل في الليل وسادة أحدهم الخالية وتوقظ في أحشائها الحنين، او من عصفورة شقية قد تمر على شباك حلم فتشعل السر وتطير .
هكذا كان اسرى فلسطين، أمّ التمائم وسيّدة الرضا، لا ينامون الا على عصيّ معاولهم ومناجلهم ويحلمون واقفين برائحة الفجر وبغنج السنابل وبالرقص عند خواصر السواقي.
وقفت في طرف القاعة أرقب من بعيد تفاصيل المشهد. كانوا أمامي يضحكون كحبات عقد فريد ويتهامسون بصوت عال ويتنقلون من طاولة لطاولة بعجقة وبفرح. كانت قاعة المؤتمر تبدو من بعيد كساحة فورة كبيرة في سجن بعيد.
كنت واقفًا على حافة الارتباك، فسمعت صوت احدهم يسألني: ما رأيك يا استاذ بالمؤتمر؟ ثم أردف قبل أن يسمع رأيي سائلا: هل تعتقد انهم سيفرجون عن القائد مروان البرغوثي ؟ هل برأيك سيطلع ؟ حاولت أن استوعب جدية السائل فسبقني مُطلقا إجابته بسرعة السهم، وقال “لا أعتقد ذلك، فاسرائيل لن تفرج عنه، وحماس تبيعنا كلاما لانها تكذب ولا تريده حرًا، وكذلك معظم رجالات السلطة لا يريدونه حرًا “؛ قالها بنبرة المتيقن وبدون مشاعر أسف. نظرت نحوه وسألته: وأنت، هل تتمنى أن يفرج عن مروان البرغوثي، فإذا كنت كذلك عليك أن تستبدل منطق سؤالك وتتحقق من دوافع متهميك؛ ثم سكتُّ برهة وأضفت: أمّا بخصوص المؤتمر فرأيي أنه على الرغم مما ينقصه ومن غابوا، سيبقى بالنسبة للكثيرين كما كان: “مؤتمر نادي الأمل الفلسطيني” .