نافِذَتي تُطِلُّ على “بداية مؤجَّلة” – د. خالد تركي

“بداية مؤجَّلة” هي رواية الكاتب الغزِّيِّ كمال صبح، حيث تروي لنا حياة الفلسطينيِّ خلال فترةٍ طويلةٍ نحو مائة عام، حين كانت بلادي ترزح تحت احتلالات مختلفة، ولم ينعم شعبي خلالها بأَيِّ لحظةٍ من الحرِّيَّة أَو الاستقلال أّو الهدوء أَو الطَّمأنينة، ما بين الحكم العثمانيِّ الطَّاغية والظَّلاميِّ فالاحتلال البريطانيِّ الجائر والمتآمر على شعبي لغاية يومنا هذا والحكم الأُردنيِّ والمصريِّ عند “ذوي القُربى” والأَقرب إِلى العدوِّ، الثَّالوث الدَّنس، منه إِلى شعبي والحكم الإِسرائيليِّ القابض بنيره على رقاب شعبي منذالقرن المنصرم إِلى يومنا هذا..

تدور أَحداث الرِّواية ما بين القُدس، زهرة المدائن، وساحة الحرم القُدسيِّ الشَّريف وسوق القطَّانين والعراق والأُردن في مجازر أَيلول إِلى الشَّام فلبنان في تلِّ الزَّعتر، والعدوان الثُّلاثي على مصر، والزَّعيم الخالد جمال عبد النَّاصر والسُّوفييت الأَصدقاء الذين عاضدوا ووقفوا إِلى جانب شعب مصر لصدِّ العدوان عنه، ويروي لنا عن الحياة ما بين مقاومة المحتلِّ الظَّالم والتَّصدِّي لعملاءِ الإِحتلال من أَبناء جلدتِنا وعمليَّة إِسناد ومساندة الشَّعبالفلسطينيِّ بحضنه الدَّافئ ودفيئته الحاضنة وتضحية واستشهاد الثُّوَّار في سبيل عِزَّة الوطن وكرامته وشرفه..

حيث أَنَّ جذوة النِّضال والكفاح لم تنطفئ ولن تنطفئ، “ما دامَت لي مِن أَرضي أَشْبار”..

لكلِّ بدايةٍ نهاية، لكن أَن تكون البداية مؤجَّلة، فهذا يعني أَنَّ البداية لم تحِن بعد، أَو أّنَّ ظروفها لم تبدأ بعد ولذلك أُجِّلت، بعد أَن انتهت الرِّواية بانتحار أَحد أّبطال الرِّواية محمود إِبن الحاج معروف، حين قال قبل انتحاره، لماريا “أَلا تعلمين كيف تحصلُ الهزائم، إِنَّها مجموعة من الهزائم الصَّغيرة، نكدِّسها لتُصبحَ هزيمةً كبرى، لقد هزمتُ نفسي منذ زمن، الهزيمة كانت بداخلي، لكنَّها كانت بداية مؤجَّلة. أَمسك المسدَّس..أَغمض عَينيه، ضجيجٌ خافتٌ، كان ارتطام الطَّلقةِ بالحائطِ بعد أّن حملت في طريقها نصف رأسه”(ص 254)..

لقد أَغمض عينَيه ساعة الانتحار لأَنَّه لا يريد أَن يرى نفسه ميِّتًا ولا يريد الموتَ لنفسه، أَرادها ميتةَ استشهادٍ ولكنَّه أَقدم على هذاالعمل، بعد أَن وجد نفسه لعبةً في يد ماريا التي استدرجَته وعميلها، صديقه عوني إلى سريرها، (مع هذه الأَصحاب لا تحتاج إِلى أّعداء، أَو على الأَقل تأّكَّد من طينة أّصدقائك قبل مصادقتهم) حيث كانت تعمل لصالح مليشيات مسلَّحة، في لبنان.

ولم يقوَ على خيانة قضيَّته فوجد في الانتحار مهربًا من ورطته معها، ومع حزبها وحفاظًا على رفاقه وعلى أَسمائهم، بعد أَن طلبوا منه مهمَّة الوشاية برفاقه وبأَماكن سكناهم وبوظيفة كلِّ واحدٍ منهم كي يتمَّ تصفيتهم “..سيكون معك سجلٌّ بأَسماء الجندِ والضُّبَّاط العاملين في المعسكر، أَلستَ تعمل هناك في الإِدارة.”(ص 242). 

عندما كان محمود طفلاً تلميذًا في المدرسة، كان مرسالَ الثَّورة بين والده الحاج معروف وباقي الثُّوَّار، الذين كانوا ينتظرون تعليماته وتوجيهاته “.. رسول الثَّورة بينكَ وبين النَّاظر”(ص 60).

لا أّدري لماذا اختار لنفسه هذه النِّهاية أَو لماذا اختار له الكاتبُكمال صبح هذا الموت بالانتحار، كان يُمكنه أّن ينتقمَ، وأّن يسير مسار الفدائيِّ سرحان العليِّ من عرب الصَّقر، كما جاء في قصيدة الشَّاعر المناضل توفيق زيَّاد “سرحان والماسورة” حين فجَّر أُنبوب نفطٍ:

“يحمل الخير الذي ينبع 

من أَرض الشُّعوب العربيَّة

لبلاد أَجنبيَّة 

آه..يا سرحان..لو..لو.. يتفجَّر”(ديوان عمَّان في أَيلول ص 77)

واستشهد بعدها الفدائيُّ سرحان العليِّ من عرب الصَّقر ساعة تفجير أُنبوب النِّفط..

كانت نهاية سرحان بطوليَّة وفدائيَّة، كانت نهايته باستشهادهأَجمل من نهاية محمود المنتحر، مع أَنَّ الموت واحد، لكنَّ الفرق هو أَن تموت عزيزًا مقدامًا مدافعًا ثائرًا غير أَن تموت هاربًا فارًّا مُدبِرًا، تُبسط به عدوَّكَ..

“فإِمَّا حياةٌ تسرُّ الصَّديق  وإِمَّا مماتٌ يغيظ العِدى”

كم تمنَّيتُ أَن يموتَ محمود ميتةَ والده وجدِّه شهيدًا، يُغيظ العِدى، حيث كان يقول الحاج معروف “سأَبقى حيثُ أَنا”(ص 35).

لقد جاء في الرِّواية عن ماريا هذا الحوار (ص 239)، حين سأَلها محمود:

-أَنتِ مسيحيَّة؟

-نعم أَنا مسيحيَّة، إِسمي ماريا وأَعمل في خدمة المنازل.

أَعتقد أّنَّ هذا الحوار كان زائدًا وغير ضروريٍّ وخارجًا عن مسيرة الرِّواية الوطنيَّة، وثائر كمحمود لا يسأَل مثل هذه الأَسئلة، حيث أَنَّه كان من الأَجدر في سياق الرِّواية أَن يسأَلها عن انتمائها الحزبيِّ للكتائب أَو للقوَّات اللبنانيَّة مثلاً، ولم يكن ضروريًّا حشر انتمائها الطَّائفيِّ في السَّرد، لأَنَّه يُعزِّز من تفرقة شعبنا وشرذمته، لأَنَّ الانتماء الدِّينيِّ هنا يحشرك في زاوية الانتماء السِّياسيِّ وهذا خطأٌ كبيرٌ..

“..ولا دينٌ يُفرِّقنا”

“..لم تشفع لنا الأَسلحة القديمة التي كنَّا نمتلكها، ولا الجيوش الهزيلة التي هبَّت لنجدتِنا، فسَقَطت فلسطين، وغزَّة تحت الوصاية المصريَّة، وما زلنا تحت الوصاية الأُردنيَّة..سيستمرُّون في الزَّحفِحتى يُصادروا ما تبقَّى، هي مسأَلة وقت..”(ص 23).

أَمَّا الحاج معروف فهو معروفٌ أّنَّه من أَعيان القدس ومن أَشرافها، تاجرٌ مشهورٌ، لا بل من كبار تجَّارها، شهيدٌ بنُ شهيدٍ، كان والد الحاج مناضلاً “..سندًا لكلِّ من يستظلُّ بعباءته، شهيدًا كان قبل أَن تقتله رصاصة ذلك الإِنجليريِّ الحاقد، وشهيدًا صار”(ص 31)، الحاج معروف هو من شهداء عدوان حزيران، نكسة فلسطين، عام سبعة وستِّين من القرن المنصرف، وليس حرب الأَيَّام السِّتَّة كما جاء في الكتاب، لأَنَّ هذا المصطلح هو مصطلح صهيونيٌّ تبجُّحيٌّ واستِعلائيٌّ يتباهون به، حيث يشير إلى بطولتهم ونصرهم على ثلاث دولٍ عربيَّةٍ بعدَّةِ وعتاد جنود “..الجيوش المنهكة..” (ص 21)، خلال ستَّة أَيَّامٍ..

الحاج معروف هو إنسانٌ وطنيٌّ غيورٌ على بلده ووطنه وهو عضوٌ “..في المجلس الوطنيِّ الفلسطينيِّ..”(ص 43)، وهو بطلٌ من أَبطال العمل السِّرِّيِّ..مهما كانت الأَوضاع غير مستقرَّة في العالم وفي شرقنا الحبيب، لقد قال صخر مرَّة لأَخيه بعد أَن وجده تائهًا يعمل في الأَسواق الغريبة، في الجزء الغريب من القُدس رافضًا نِعَم أَخيه عليه، قال عن نفسه متحسِّرًا، مقارنًا نفسه بأَخيه: “..النَّائب والثَّائر وجيهٌ من أَعيان القُدس، وأَنا نكرة” (ص 54)..

أَمَّا أَخوه صخر فتختلف طريقة حياته ونهجه وتربيته وأَخلاقه وتربيته لأَولاده تمام الاختلاف عن شقيقه الحاج معروف، حتَّى أَنَّه لم يعبأ بتاريخ والده الكفاحيِّ ولا بتاريخ شقيقه النِّضاليِّ ولا بسمعته الطَّيِّبة بين النَّاس، ولم يحترمه البتَّة، حتَّى أَنَّه بعد استشهاده استولى صخر على ثروة أَخيه وأَملاكه وتجارته..

“عاد صخر متسكِّعًا بين أَزقَّة الأَسواق والحواري..”(ص 28).

عدا عن ابنٍ واحدٍ، رؤوف، الذي نشأ نشأة أَولاد عمِّه وحافظ علىسجلِّ عمِّه وجدِّه النِّضاليِّ، فسار على طريق المحبَّة لشعبه، وطريق الوطنيَّة والفداء وعمل الخير، وقد اختار حياة النِّضال والثَّوريَّة والذَّود عن حياض الوطن..

كانت تقول والدتي أُمُّ خالد: إِنَّ بطن الأُمِّ بستانٌ، حيث تجد فيه من من الفاكهة الحامضة إِلى الحلوة..

لقد كان رؤوف يواجه والده ويعترض على تصرُّفاته المشبوهة، وكان يشعر بخجل جارح يذبح صدره، حتَّى أَنَّه قال لوالده مرَّةً “..نحن من قتلنا عمِّي معروف، وطردنا ابنه، نحن من أَرغم أَبو ابراهيم على النُّزوح، نحن من عثنا فسادًا في السُّوق حتَّى أَصبح خرابًا..”(ص 133).

حاول بشتَّى الطُّرق منع والده بيع العقارات وإِغلاق المقهى”الوكر”، كذلك طلب منه الشَّباب أَن ينهاه ويردعه عن طريقه،بالحُسنى، “هذا المقهى الذي لم يجلب لنا سوى الخراب والسُّمعة السَّيِّئة، يجب أَن تُغلقه”(ص 155)، لكنَّ أُذنَي والده صُمَّان، وقام بطرده من البيت.

..”لكنَّنا نتشبَّث بالأَمل وإِن كان غائبًا..لعلَّ أُمنياتنا تتحقَّق..”(ص 26)

كان رؤوف دائم الافتخار بعمِّه الحاج معروف البطل “كنَّا نستظلُّ بشجرةٍ وارفةٍ، قطعها والدنا، وتركنا في القيظِ تلسعُ الشَّمس رقابنا” (ص 135)، وحين أَمسكه ثوَّار مخيَّم شعفاط حين أَراد أَن يسكنه، تاركًا بيت والده، ليتحقَّقوا من أَمره قال لهم أَنا “عمي هو الحاج معروف”(ص 137)، “شعر فجأَةً بمسحة الاطمئنان على وجوه الشَّباب، قائلين له “كلُّنا أَبناء الشَّهيد الحاج معروف..”(ص 137)، لقد كان بودِّ الثُّوَّار قتل العميل صخر، “لكنَّنا تركناه، لا لشيئٍ إلا إِكرامًا لذكرى الحاج معروف..”(ص 152).

لقد كان عمُّه مفخرته وضمانه وأَمانه واعتزازه وشهادة على إخلاصه و”حسن سلوكه”.

(كما افخرُ أَنا بعمِّي داود تُركي أَبو عائدة الذي قضى قرابة عقدين من الزَّمن في سجون وزنازين الإِحتلال خ.ت.).

يصف لنا الكاتبُ سقوط القُدس، سقطت لأَنَّ الذَّخيرة نفَذت من يد المقاومة، “..على بُعد أَمتار من المسجد سقطت قذيفة، تناثرت أَشلاء النَّاس”، “عشرات الدَّبَّابات الإِسرائيليَّة قادمة نحو باب الخليل..”، “نصف الكتيبة ملقى على الأَرض بين شهيدٍ وجريح، نفذت ذخيرتنا واستبدَّ العطش..”، قرَّر الحاج معروف أَن يبقى مقاومًا رافضًا التَّراجع أَو الاستسلام “لن نخرج من هنا، سأَبقى حيث أَنا، إِمَّا أَن أَصعدَ إِلى السَّماء أَو لتبتَلعني الأَرض” (ص 70)..لقد سقط الحاج معروف وسقطت معه القُدس، “سكتت كلُّ البنادق، جميعها أَعلنت شهادتها معه، سقط الحاج معروف”(ص 76)..

سقط الحاج شهيدًا وابنه محمود يدرس في جامعات الشَّام لا يعرف عن مصير والده وأَهله شيئًا، ولا يستطيع العودة إِلى القُدس لأَنَّه أَصبح نازحًا، وقد أَحكم الاحتلال سيطرته على مدينة القيامة أُولى القبلتين، وأَصبحت القُدس بشطريها تحت فكَّي المُحتلِّ، كذلك أَحكم صخر السَّيطرة على أَملاك أَخيه الشَّهيد بعد أَن نزحت زوجته إِلى نابلس وبقي محمود نازحًا في الشَّام، حيث حوَّل صخر دكاكين أَخيه إِلى مقهى للتَّسالي و”وجد أَبناء صخر ضالَّتهم في التَّسكُّع مع السَّائحات الشُّقر ولكي يجدوا لأَنفسهم مقرًّا يمارسون فيه اللهو..”(ص 85)، كان مقهى والدهم مقرَّهم..

تحوَّل من ملتقى الشُّرفاء الغيورين على الوطن إلى ملتقى السَّاقطين من أَبناء الوطن..

قال التُّجَّار جيران الحاج معروف ورفاقه لصخر “أَيُّها الفاجر كان الأَولى أَلا تبيع دكَّانك لليهود” (ص 90)، لا بل تمادى صخر في غيِّه وأَصبح يضرب بسيف السُّلطان بين تهديد ووعيد! بأنَّه سيشتري كلَّ دكاكين الحارة “طائعًا أَو مرغمًا”، لكنَّ الحَمِيَّة الوطنيَّة عند رفاق الحاج معروف كانت التَّحدِّي “بل سنعيد دكاكين الحاج معروف..سيعود محمود ويستعيدها”(ص 101).

بعد أَن أنهى محمود دراسته في الشَّام تزوَّج من شيماء، فلسطينيَّة من مخيَّم خان الشَّيخ، تعود جذورها إِلى صفد، لم يستطع العودة إِلى القدس لكنَّه عاد إلى قرية الكرامة في الأُردن، فهي الأَقرب إِلى القدس، “هذه النَّافذة التي نُطلُّ منها على فلسطين..”(ص 140)، وهناك التحق بحركة المقاومة، حيث وثَقوا به كثيرًا بعد أَن عرفوا أَنَّه ابن الحاج معروف..

فمن شابه أَباه فما ظلَم..

ويتحدَّث عن معركة الكرامة حيث التحمت المقاومة الفلسطينيَّة مع شرفاء الأُردن، “أَعدنا للعرب كرامتهم بعد النَّكسة، رغم أَنف الإِحتلال، نحن قادرون على العودة..سنعود”(ص 127)، ويُضيف “نعم قاتلنا معًا وانتصرنا معًا..”(ص 140).

لكنَّ وحدة الحال لم تدُم طويلاً فقد حدثت مجازر أَيلول “الملك مَن يريد إِبعادنا..”(ص 142)، ونفَّذ بحقِّ شعبي المجازر والقتل والإبادة والبطش “تركوا الضَّفَّة للمحتلِّ ونهر دمانا عليهم هان”..

لقد انتقمت شبيبة المقاومة من صخر وأَولاده بحرقها المقهى، لكنَّهم بعد أَن أُصيب بكسرٍ في ساقه ومرضت والدته إعتنوا بوالديهكرامةً لرفيق دربهم رؤوف وللحاج معروف..

لقد أَثار اهتمام مسؤول المقاومة بعائلة رؤوف، التي خانت الوطن، غضِب الشَّباب، الذين أَرادوا قتله فقال لهم “لسنا أَدوات للقتل، مهمتنا أَن نُقاتل عدوَّنا، لنبني لا لنهدم، أَنصحك يا رفيقي أُقتل الحيوان الذي بداخلك قبل أَن تقتُل النَّاس”، “سنؤدِّي واجبنا نحو رفيقنا حتَّى يعود” (ص 197)..

حين تعافى صخر من إِصابته ومرضه عاد إِلى درب شقيقه وابنه “ليته بقي بيننا ليُسامحني”(ص 227)، فرمَّمت المقاومة دكاكين الحاج معروف، وجلس صخر هناك راجيًا أَن يُعيد مجد أَخيه، “فتح مذياع الحاج معروف..أَعادهم صوت المذياع إلى هيبة الحاج معروف وحضوره، دعاهم صخر ليجلسوا عنده..”(ص 243)، لقد تاب ووعدهم بضمان مستقبل زوجة أَخيه التي التجأَت إِلى نابلس، وبإِرجاع كلِّ عقار ودكَّانٍ إِلى صاحبه، محمود حين يعود، وسيأخذ أَجره من ربح تجارة القطن والأَثواب القطنيَّة والملبوسات الفلسطينيَّة.. 

الحاج معروف وابنه محمود ورؤوف ابن أَخيه هم أَبطال الرِّواية والحاج معروف هو محورها، حيث تجلس أَحداث الرِّواية على ثلاث ركائز، الثَّالوث الثَّائر، ثالوث الثُّوَّار..

استشهد الحاج معروف في معارك القُدس، في عدوان حزيران، ومحمود ابن الشَّهيد، مقاتل في معركة الكرامة، الأُردن، وفي معارك لبنان لصدِّ قوَّات الاحتلال والدِّفاع عن حرِّيَّته، يموت انتحارًا، في لبنان، كي يحمي رفاقه الفدائيِّين، من غدر الأَعداء والعملاء كي لا يشي بهم للقوَّات اللبنانيَّة وللكتائب، وذلك في ثمانينات القرن المنصرف، أَمَّا رؤوف فقد واجه عدوَّين، العدوُّالأَوَّل هو العدوُّ الذي في بيته، والده صخر وأَشقَّاؤه، والعدوُّالثَّاني هو الاحتلال، حيث وقع في الأَسر واعتُقل وعُذِّب وصُلِب وشُبح “ستتكلَّم أَو تموت”(ص 211)، فكان شريفًا، عصيًّا وصامدًا “.. فانهال على رؤوف ضربًا وركلاً حتَّى سقط على الأرض..كان رؤوف من داخل الكيس الخانق، يغمض عينيه ويشيح برأسه في كلِّ الاتِّجاهات..والقي به في زنزانته”(ص 200)، وحين صمد في المعتقل رموه في شوارع المخيَّم، وجد نفسه ملقىً في شوارع مخيَّم شعفاط، ليُراقبوا تحرُّكاته واتِّصالاته وليكون تحت مجهرهم “لمراقبتي”(ص 214)..

لقد ” استشهد رؤوف، فجَّر كلَّ القنابل التي يحملها بنفسه حين تكاثر الجنود حوله، لم يعُد رؤوف..”(ص 248)..

لقد غنَّت القُدس لاستشهاد رؤوف:

سبَّل عيونو ومد إِيدو يحنُّولو 

خِتامًا..

تبريكاتي القلبيَّة العطرة للكاتب الفلسطينيِّ ابن غزَّة هاشم، كمال صبح بصدور ثمرة قلمه “بداية مؤجَّلة”.

وهذا هو الإصدار الرَّابع للكاتب الأديب كمال صبح، بعد “إِيفانوف في إِسرائيل”، “أَرتميس” و”أَسير الثَّلج”.

أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمانِ كِتابُ..

ملحوظة: صدر هذا الكتاب، عام أَلفين وثلاثةٍ وعشرين، عن مكتبة سمير منصور للطِّباعة والنَّشر والتَّوزيع، غزَّة، فلسطين، من الحجم المتوسِّط، في مائتين وخمسٍ وخمسين صفحة..

ملحوظة أخرى: كم تمنَّيت أَن تكون المراجعة اللغويَّة للرِّوايةِ جدِّيَّة أَكثر، لتكون القراءة أَمتع وأَجمل وأَحلى ومشوِّقة أَكثر، لأَنَّ الأَخطاء اللغويَّة تُفقد من الرِّواية روعتها وجمالها، وجلَّ من لا يسهو، ومن لا يُخطئ..

ملحوظة ثالثة: لا أَدري من هو مصمِّم الغلاف. إِنسانٌ مجهولُالمعالم والسِّيماه، غامض التَّفاصيل التي تغيب في داخل غابةٍ مُظلمةٍ، تُطِلُّ الشَّمس من بين الأَغصان علَّها تُنير طريق الباقين ليسيروا على نورٍ وتدلُّ العابرين إلى طريق خلاصهم، وإِن كان فيها نوعٌ من التَّشاؤم، بصورة شخصٍ مجهول المعالم، وحده في غابة موحشةٍ لعلَّه يقول ما قاله الإِمام عليٍّ كرَّم الله وجهه: لا تستوحشوا طَريق الحقِّ لقلَّة السَّالكين فيه، ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ..﴾، فإنَّ صبر السَّاعة لم تحِن بعد..

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*