عز الدّين القسّام الشّرارة الأولى (1)

اسكندر عمل

ولد عزّ الدّين القسّام عام 1882 في جبلة السّوريّة جنوب الّلاذقيّة، ابوه عبد القادر القسّام كان صاحب كُتّاب وكان يعلّم فيه الأطفال أصول القراءة وحفظ القرآن. وكانت العائلة متديّنة ومتوسّطة الحال اقتصاديّاً.
تلقّى عزّ الدّين دراسته الابتدائيّة في مدرسة بلدته، وفي سنّ الرّابعة عشرة انتقل إلى مصر ودرس في الأزهر أربع سنوات، وتتلمذ على أئمّة معروفين كمحمّد عبده، ونال الشّهادة الأهليّة.
كان لهذه السّنوات في مصر أثر كبير على عزّ الدّين، إذ انّها كانت سنوات غليان بعد الثّورة العُرابيّة وازدياد القبضة الحديديّة على القوى الوطنيّة في مصر.
عاد عزّ الدّين إلى جبلة عام 1903 وأخذ يُعلِّم في بلدته، ثمّ أصبح إماماً لمسجد المنصوري في جبلة، وقد استطاع من خلال خطبه وسلوكه أن يؤكّد على أنّ دور رجل الدّين هو دفع المؤمنين إلى رفض الذّل والاتّكاليّة.
برزت الرّوح الثّوريّة عند القسّام، عندما قامت القوّات الإيطاليّة باحتلال ليبيا عام 1911 ، فقامت المظاهرات الصّاخبة في سوريا، وقام هو بقيادة مظاهرة جبّارة في بلدته تأييداً للعرب الّليبيّين، ودعا النّاس للتّطوّع لمحاربة الإيطاليّين، وقد استطاع تجنيد خمسين متطوّعاً، إلّا أنّ السّلطات العثمانيّة لم تسمح لهم بالسّفر.
في العامين 1919- 1920 شارك القسّام في حركة المقاومة ضدّ الفرنسيّين، وكان من زملائه في الثّورة عمر البيطار وصالح العلي. وكانت نتيجة اشتراكه الفعّال في مقاومة الفرنسيّين، أن حكمت عليه حكومة الانتداب بالإعدام.
بعد فشل ثورة 1920 وسيطرة الفرنسيّين المطلقة على سوريا التجأ إلى فلسطين عام 1921 ، وقد رافقه إلى حيفا اثنان من رفاق دربه وهما الشّيخ محمّد الحنفي والشّيخ علي الحاج عبيد.
لم يجد القسّام، بفضل ما يتمتّع به من ثقافة دينيّة واسعة وبراعة في الخطابة، صعوبة في الانضمام لجهاز التّعليم في المدرسة الإسلاميّة بحيفا عام 1922، وأصبح في السّنة ذاتها إماماً وخطيباً في جامع الاستقلال في المدينة. ثمّ انضمّ بعد ذلك إلى جمعيّة الشّبّان المسلمين الّتي تولّى رئاستها في العام 1928.

*مرحلة الإعداد النّفسي للثّورة*

كسب الشّيخ عزّالدّين القسّام خبرة واسعة في نضاله ضدّ الاستعمار الفرنسي في سوريا، وأدرك أنّ الاستعمار وحدة لا تتجزّأ مهما تنوّعت أشكاله وأساليبه، وأراد أن يتدارك الأخطار الّتي وقعت في الثّورة السّوريّة، كي لا تقع في فلسطين، لذلك رأى أنّه يجب أن تكون مرحلة للإعداد النّفسي للثّورة ضدّ الاستعمار، وبدأ هذه المرحلة عام 1922. عمد القسّام في هذه المرحلة إلى اختيار الكيفيّة دون الكمّيّة كما يقول أبو ابراهيم الكبير(الشّيخ خليل محمّد عيسى) أحد رفاق القسّام، وقد استغلّ كونه مدرّساً وخطيباً لكي يوصل أفكاره ويفحص تأثيرها على سامعيه. يقول أبو ابراهيم الكبير” كان للشّيخ حلقات درس يعلّم فيها المسائل الدّينيّة، لكنّه كان أكثر المشايخ تطرّقاً لضرورة الجهاد ولمنع الصّهيونيّة من أن تحقّق أحلامها في بناء وطن قومي على أرض فلسطين، ولقد استجوبته السّلطات الاستعماريّة مرّات عديدة، وقد تجنّبت الحكومة اعتقاله لما كان له من شعبيّة كبيرة”.

*مرحلة العمل*

آمن القسّام أنّ الثّورة المسلّحة هي الوسيلة الوحيدة الكفيلة والقادرة على إنهاء الانتداب والحيلولة دون قيام دولة يهوديّة في فلسطين، وكانت حوادث البُراق في أيلول 1928 قد دفعت الشّيخ ورفاقه إلى الانتقال من مرحلة الدّعوة والإعداد النّفسي إلى مرحلة العمل. ومن الطبيعي أنّ الثّورة المسلّحة تحتاج إلى تجنيد وتخطيط سياسي وعسكري وتحتاج إلى تنظيم سرّي ثوري يربّى فيه المقاتلون عسكريّاً وسياسيّاً. كان هذا التّوجّه جديداً في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، لأنّ النّضال لم يتعدّ المظاهرات والإضرابات. ويؤكّد أبو ابراهيم الكبير أنّ التّحوّل ألى التّنظيم العسكري كان بسبب تعاظم قوّة اليهود العسكريّة والاحتياطات الّتي اتّخذوها لمواجهة العرب، مقابل ذلك لم يكن العرب محتاطين أمام الخطر، ويضيف أنّ التّدرّب على السّلاح بدأ متواضعاً عام 1928 ، ” اشترينا بندقيّة، وأحضرنا مدرّباً كان اسمه محمّد أبو العيون، وكانت تبدأ الجلسة بأن يلقي الشّيخ دروساً في الدّعوة إلى الجهاد ضدّ العدو، وكان المدرّب يقوم في آخر الجلسة بتدريب الموجودين على البندقيّة واحداً واحداً.”
تشكّلت القيادة الأولى للحركة عام 1928 وضمّت خمسة أشخاص وهم عزّ الدّين القسّام والعبد قاسم وهو فلّاح وبائع كاز في حيفا ومحمود زعرورة وهو فلّاح ومحمّد صالح وهو فلّاح وكانت لديه كارّة أو طنبر، وأبو ابراهيم الكبير فلّاح وصاحب دكّان لبيع الصوف والأكياس، ويبرز من خلال مهنهم انتماءهم الطّبقي.
في العام 1929 ،استخدم القسّام معظم الوسائل كي يُعيَّن مأذوناً شرعيّاً في قضاء حيفا، لأنّ ذلك يُتيح له فرصة التّجوّل بين الفلّاحين وانتقاء العناصر الوطنيّة من أجل تجنيدها في الحركة، وفي هذا العام أخذ يتجوّل في قرى شمال فلسطين، بوصفه موظّفاً في المحكمة الشّرعيّة في حيفا، واستطاع من خلال تجواله ومن خلال التقائه بالنّاس أثناء الصّلاة وبعدها في جامع الاستقلال، أن يُقنِع كثيرين بالانضمام إلى العمل الثّوري.
ويُروى أنّه” عندما كان يخطب على منبر جامع الاستقلال كان يراقب المصلّين ويدعو من يتوسّم فيه الخير والاستعداد لزيارته في بيته، وتتكرّر الزّيارات حتّى يُقنعه بالعمل لإنقاذ فلسطين ممّا يهدّدها من خطر.”
نظّم القسّام العناصر الّتي جنّدها في خلايا سريّة لا يتجاوز عدد أفراد الخليّة الواحدة منها الخمسة، إلّا أنّ هذه الخلايا اتّسعت في بداية الثّلاثينات لتضمّ نحو تسعة أشخاص، وقد وزّ ع القسّام الأدوار والمهمّات بشكل دقيق.
بقي القسّام في سكنه القديم في الحي القديم من حيفا، حيث يسكن فقراء الفلّاحين الّذين نزحوا من قراهم إلى المدينة طلباً للرّزق، لكنّهم عاشوا فيها دون مستوى الفقر، فكانت منازلهم عبارة عن أعشاش من الصّفيح، وحاول القسّام أن يحسّن من أحوال معيشتهم، وبدأ بمكافحة الأميّة من خلال إعطاء دروس ليليّة، وسرعان ما أصبح  فلّاحو المنطقة الشّماليّة يكنّون له أبلغ الاحترام والمودّة. استطاع القسّام أن يجذب الجماهير الشّعبيّة المتديّنة إلى العمل الوطني الثّوري، واستطاع اقناعهم أنّ الإسلام هو دين الفقراء، دين العدل والمساواة والثّورة، ونجح بهذا في محاربة العناصر الرّجعيّة الّتي تتاجر بالدّين.

*هبّة أغسطس 1929 وموقف القسّام منها*

في منتصف آب 1929 حدثت اشتباكات حادّة بين العرب واليهود قرب حائط البُراق(المبكى)، أدّت إلى وقوع أعداد من الجرحى ووفاة يهودي واحد، فقامت السّلطات البريطانيّة باعتقال أعداد كبيرة من الشّبّان العرب وعدد قليل من اليهود. انتشرت الأخبار عن نيّة اليهود الصّهيونيّين شنّ هجوم على حائط البُراق واحتلاله، فتوافد أهالي القرى بأعداد كبيرة إلى القدس يوم الجمعة 23 آب 1929 ، وحدث صدام بعد خروج المصلّين من المسجد الأقصى، وتدخّل الجيش البريطاني ضدّ الجمهور العربيّ، ثمّ انتشرت المظاهرات في المدن الفلسطينيّة الأخرى واشتعلت نيران الثّورة.
كان موقفف القسّام من هذه الأحداث، أنّه رأى أنّ التّهيئة والإعداد للثّورة لم يكتملا، وأنّ الوقت لم يحن لإعداد الثّورة المسلّحة، لذلك رفض فكرة اعلان الثّورة بعد حوادث البراق 1929 ، وهذا سبّب، حسب بعض المصادر إلى انشقاق في الحركة القسّاميّة، فقد اشترك عدد كبير من رفاق القسّام في أحداث حائط البراق، وعلى رأسهم أبو ابراهيم الكبير، الّذين اعتقدوا أنّ الوقت قد حان لإعلان الثّورة، لأنّ الخطر يهدّد كيان البلاد، واختلفوا مع القسّام حول قضيّة جباية الأموال من الشّعب، فقد رأوا أنّه يجب استعمال كل الوسائل من أجل هذه الغاية، إلّا أنّ القسّام أصرّ على عدم استعمال العنف في جباية الأموال، لأنّ ذلك يؤدّي إلى انقسامات داخليّة، وأكّد أنّ الشّعب سوف يدفع التّبرّعات بعد إعلان الثّورة وبعد أن يرى انتصاراتها.
من ناحية أخرى يقول ابراهيم الشّيخ خليل، أحد كبار رفاق القسّام وتلامذته، أنّه لم يحدث أي انشقاق في صفوف الحركة، وأنّ الخلاف الوحيد كان على توقيت اعلان الثّورة في أوائل عام 1935 . ويؤكّد ابراهيم الشّيخ خليل أنّه لم يكن أي جدال حول طريقة جباية الضّرائب، وأنّ مصادر التّمويل كانت من مصدرين، الاشتراك الشّهري والتّبرّع الطّوعي، ويسرد حادثة حدثت معه نستشفّ منها كرم الجماهير الفلسطينيّة في التّبرّع، وسريّة العمل وعدم البوح  بأسماء المتبرّعين. والحادثة كما يرويها:” كنت أنا شخصيّاً عنصراً في خليّة عددها تسعة عناصر، وذات يوم حضر مساعد قائد الخليّة وطلب منّي تبرّعاً محدّداً قيمته خمسة وسبعون قرشاً فلسطينيّاً، ودفعتُ المبلغ. ولمّا أنا كنت أقدر منه على معرفة بيوت الرّفاق طلب منّي أن أرافقه للطّواف على بيوت الرّفاق(واسم الرّجل عارف ابراهيم وهو مقيم في الأردن حاليّاً)، وفي الطّريق قابلنا أحد الرّفاق واسمه عبد القادر أحمد، عامل في سكّة الحديد فطلب عارف منه المبلغ، فقال عند عودتكما تجدانني في هذا المكان والمبلغ معي، وفعلاً وبعد عودتنا من المهمّة، وجدنا عبد القادر في نفس المكان ودفع المبلغ المطلوب إلى الأخ عارف وتابعنا طريقنا..وكان على بعد خطوات متجر بقالة لرجل من قرية البروة اسمه على ما أذكرأبو صالح وكان يعرفني فاستوقفني واستدعاني لداخل المتجر، وبعد السّلام قال لي ألا تتّقون الّله؟ فقلت بلى، فقال والّله يا ولدي ،ّ عبد القادر يوم أمس اشترى من متجري كيس طحين بخمسة وسبعين قرشاً وقبل ساعة أحضر كيس الطّحين وطلب منّي شراءه، وبعد وزنه كان الطّحين يساوي ثمانية وستّين قرشاً دفعتها له، وطلب منّي استدانة سبعة قروش أخرى فدفعتها له، وأنا يا ولدي كما تعلمون ميسور الحال وبإمكاني دفع عشرة جنيهات، إفْتَحْ يدك واستلِم المبلغ. ولكنّني أنكرت الواقعة وأنكرتُ أنّ عبد القادر، دفع تبرّعاً واستدرت لأنادي على عبد القادر الّذي كان لا يزال يقف مع رفيقي عارف، ولكنّ الرّجل توسّل إليّ وأقسم أنّ عبد القادر لم يحدّثه بهذه الواقعة ولكنّه عرفها بفراسته واستنتاجاته الخاصّة، وكرّرتُ أنا انكار الواقعة وانصرفت. وفي الطّريق أطلعت رفيقي على ما جرى مع صاحب المتجر، فقال أحسنت لأنّك أنكرت الواقعة، ولكنّ هذا الرّجل صالح وقد وضعناه منذ مدّة تحت المراقبة، وكانت كلّ المعلومات الّتي وصلت عنه إلى الآن تشير إلى صلاحه وإلى أنّنا سنستفيد منه بعد أن نرفع مراقبتنا عنه. هذه الواقعة بما فيها من معاني البذل والتّضحيّة وغيرها من القرائن كفيلة بأن تدلّل على تلك الرّوح المعنويّة في ذلك الوقت.” (يتبع)

 

Post Tags:

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*
*