إضاءات عامة حول قصيدة “رباعيات” في”أرى ما أريد” لمحمود درويش – د. نبيل طنوس
- by منصة الراي
- November 23, 2018
- 0
- 1423  Views
- 0 Shares

“في اللغة نجد حلولنا. في اللغة نحاول أن نزوّج المعلوم المجهول. في اللغة نسافر ونعود. في اللغة نرسي للسفر قواعد رمزية تكسر ذاتها لتبني ذاتها أو تكسر السفر. في اللغة نصالح ما لا يتصالح في الواقع… وفي اللغة نعلن حربنا ونقيم سلامنا“( سفر بلا سفر / من رسائل محمود درويش إلى سميح القاسم. باريس 21.11.1986)
تمهيد:
تتكون قصيدة “رباعيات“ من خمسة عشر مقطعا تتحدث عن الموجود كما يراه الشاعر وعن المنشود كما يتخيله ويتمناه. في هذا المقال سوف نتطرق إلى عبارة “أرى ما أريد” التي يستهل بها الشاعر قصيدته وإلى تكرارهاكلازمة في جميع المقاطع وإلى لازمتين إضافيتين “إني أرى” و”أغمض عيني” كلازمتين مساندتين للأُولى. ثم نتطرق إلى الموتيفات التي تتكرر في هذه القصيدة والتي تشكل عاملا يساعدنا في طرح إضاءات حول المقاطع جميعها محاولة منا لفهم القصيدة وإدراك مكنوناتها. وننهي المقال بالثنائية التي تميز القصيدة “ما بين الرؤية والرؤيا“.
لغة هذه القصيدة هي درويشية محضة تُشعر القارئ بفلسطينية المضمون فمجموع التعابير في هذه القصيدة بالذات تصف حالة الشعب الفلسطيني وأُمنيات الشاعر له. يقول مراشدة (2005) “يحتفي درويش باللغة الشعرية بوصفها معطى هام في تكثيف شاعرية القصيدة“، ويقول درويش:” في اللغة نجد حلولنا، أن نزوج المعلوم إلى المجهول، في اللغة نسافر ونعود. في اللغة نرسي قواعد سفر رمزية تكسر ذاتها لتبني ذاتها أو تكسر السفر” ( سفر بلا سفر / من رسائل محمود درويش إلى سميح القاسم. باريس 21.11.1986، وجاء في عرايدي، 1994).
عبارة “أرى ما أُريد”، اللازمة الاستهلالية، هي عتبة النص ومنها ندخل في القصيدة، التي تبدأ جميع مقاطعها بذات العبارة، وما يميزها الفعلان “أرى وأُريد” اللذان جاءابالمضارع بضمير المتكلم الذي يعلن بواسطته المتكلم على الملأ أنه يعبر عن وجهة نظره الشخصية، ومن الواضح هنا أن الشاعر / الراوي بضمير المتكلم إنما يؤكد مباشرة أنه عليم بكل شيء.
للفعل المضارع ثلاثة محاور: ديناميكية الفعل، آنيته وسردية القصيدة. يلجأ الشاعر إلى ضمير المتكلم من أجل تبئير فكرته وتوكيد ذاتيته.
الفعل أرى من رأى والذي يعني وجد، اعتقد، ومنها رُؤْيةً، ورؤْيا فهو راءٍ. “الرُؤيةً“ هي إدراك الأجسام بالعينين أي رؤية مادية فيزيائية. و“الرؤيا“ هي ما يراه النَّائم في نومه.وهي الكشْف، أي تجلِّي الذَّات الإلهيَّة للصُّوفيِّين والأَنبياء. نعتقد أن الشاعر ينتقل من الرؤية المادية بالعينين كوسيط الى الرؤيا الحلمية فيرى ما وراء المادة.
الفعل أريد يشير إلى حرية الاختيار، الطلب، الرغبة، التمني وغيرها. ومن هنا نعتقد أن تكرار الاستهلال “أرى ما أُريد”يدلُّ عن رغبة الشاعر بأن ندرك أنه يعبر عن وجهة نظره هو وكأنه يقول للمتلقي لك الحق بأن ترى ما تريد. أنا “أرى ما أُريد” وأنت “رَ ما تريد” وربما ترى بشكل مختلف.
يستهل المقاطع الخمسة عشر ب “أرى ما أُريد” وفي تسعة مقاطع ينهي الشطر ذاته ب “ إنَّي أَرى” ومقطع واحد ينهيه ب “إني رأيتُ” وفيها يشرح ماذا وكيف رأى.
تكرار “أرى ما أُريد” كلازمة للقصيدة و“ إنَّي أَرى”للتوضيح تنسجم مع حالة الرؤيا في القصيدة والتي تتحقق في الحلم لذلك “أُغمض عيني” ليبصر الأعماق.
تتعدد الرؤية في القصيدة لمجموعة أشياء: الحقل، البحر، الليل، الروح، السلم، الحرب، السجن، البرق، الحب، الموت، الدم، المسرح العبثي، الشعر، الفجر، الناس. إنه يرى مجموعة الأشياء هذه بشكل معلوماتي ويغمض عينيه كي يبصرها حُلُميا كما يريد، أي يراها رؤية متخيلة، رمزية ومثالية وتتحول الرؤية إلى رؤيا، ويتحول الشاعر إلى راءٍ.
في الرؤية يسترجع الشاعر الحقل والقمح والبئر والأرض الخضراء والبحر والنوارس واللوز، رؤية هذه كلها تثير عنده حالة شعبه الفلسطيني التي تتمثل في: الليل والحرب والسجن والموت والدم وتؤدي إلى أُمنيات يرجوها الشاعر لشعبه: السلم (إني أرى غزالاً وعشباً، وجدول ماءٍ… فأغمض عينيّ :هذا الغزال ينامُ على ساعديّ وصيَّادُهُ نائم، قُرْبَ أولادِهِ في مكانٍ قصيّ)، الحب، الشعر ولكن الواقع قاس وصعب فهو كالمسرح العبثي: : “الوحوشْ قضاةَ المحاكم، قُبَّعةَ الإِمبراطور، أقنعةَ العصر، لونَ السماء القديمة، راقصةَ القصر ، فوضى الجيوش فأَنسى الجميع، ولا أتذكَّر إلا الضحية خلف الستار“. وللناس رغبة للحنين: “رغبتَهمْ في الحنينْ إلى أيِّ شيء. تباطؤهم في الذهاب إلى شُغْلِهمْ وسُرْعتَهُمْ في الرجوع إلى أهلهمْ ...وحاجتهم للتحيِّةِ عند الصباح“. إنها رؤيا تفاؤلية تشجع الناس علىالاهتمام المتبادل والتكافل فيما بينهم، إنها حاجة ضرورية تزرع الأمل بينهم وكم هو الشعب الفلسطيني بحاجة إلى التفاؤل والأمل.
موتيفات درويشية في القصيدة:
الموتيف Motif هو لفظة أو جملة أو فكرة أو موضوع متكرر في العمل الأدبي أو الفني من أجل تطوير فكرة النص. وتكرار الموتيف يمنحه قيمة ومعنى ودلالة. تُعرّف كلمة «موتيف» بشكل عام بأنها الجزء المتكرر والمستمر الحامل لمعنى أو قيمة ثقافية، والذي يدخل في تكوين الشكل أو المحتوى لمختلف أنواع الإنتاج الثقافي (عموري اقتباسا عن الشامي،2007: 29). يساعدنا الموتيف في فهم الحالات أو القضايا أو الأفكار التي كانت تجول في عقله. يبدو لنا واضحا أنّ تكرار فكرةٍ أو صورةٍ أو رمزٍ أو إيقاعٍ ما ليصبح موتيفاً، يعني أن له أهمية خاصة وكبيرة عند الشاعر.
فيما يلي موتيفات تكررت في قصيدة “رباعيات“(حمزة حسين، 2012. للتوسع بالموضوع أُنظر المصدر المذكور):(الرقم بين قوسين هو رقم المقطع في القصيدة):
إضاءات المقاطع:
1.
“أُرى ما أريدُ مِنَ الحقل… إنَّي أَرى
جدائلَ قَمْحٍ تُمَشِّطُهَا الريح، أُغمضُ عينيِّ :
هذا السرابُ يُؤدِّي إلى النَهَوَنْدْ
وهذا السكونُ يُؤَدِّي إلى اللازَوَردْ“
ينظر الشاعر إلى الحقل فيرى ما يريد ان يراه هو. الحقل ممتلئ بسنابل القمح التي تتمايل مع هبوب الريح. هو لا يرى سنابل قمح، إنه يرى فتاة مستلقية بحضن أُمها التي تمشط جدائلها فالسنابل هي الجدائل. استبدل الشاعر كلمة سنابل بكلمة جدائل والتعبير “تميلها الريح” ب “تمشطها الريح”. يستمتع بهذه الرؤية ويغمض عينيه فيرى السراب والسكون. السراب يؤدي إلى النهاوند وهو مقام موسيقي له طابع رقيق عذب يناسب الألحان العاطفية الحزينة، وله أيضاً طابع طربي فرح. والسكون يؤدي الى اللازورد وهو حجر كريم للزينة وأجود أنواع اللازورد ما كانت زرقته صافية وضاربة إلى الحمرة أو الخضرة وقد اعتقد القدماء بأنّ للازورد خصائص طبية، فكانوا يسحقون الحجر ويمزجونه بالحليب، وكان المزيج يستعمل طلاء للبثور والتقرّحات.
2.
“أرى ما أُريدُ من البحر… إني أرى
هُبوبَ النوارس عند الغروب فأُغمض عينيّ :
هذا الضياعُ يؤدِّي إلى أندلُسْ
وهذا الشراعُ صلاةُ الحمام عليّ ….“
كان الشاعر في رحلة سفر دائم، وهو يتذكر هنا امجاد الأندلس، ولذلك يتذكر الضياع الحالي، أو ربما بالعكس فالضياع الحالي ذكره بأيام المجد، والنوارس طيور البحر المسافرة تحمل اليه مع البحر هذه الامجاد ولكنه يرى بهبوبها الضياع الذي يذكره بالأندلس . والحمام المسافر بأجنحته البيضاء من مكان الى مكان يشكل شراعا لسفره. وهذا الشراع صلاة الحمام علي، وهنا امكانيتان:
3.
“أرى ما أُريدُ من الليل… إني أرى
نهايات هذا الممرِّ الطويل على باب إحدى المُدُنْ
سأَرمي مُفَكرتي في مقاهي الرصيف، سأجْلسُ هذا الغيابْ
على مقعد فوق إحدى السفُنْ“
يرمز الليل أحيانا إلى ألأمور الحسنة المرغوبة، مثلا إلى الخير والمتعة وأحيانا أخرى يرمز إلى الأمور السيئة غير المرغوبة مثلا إلى الشر والألم. فنرى أمرؤ القيس في معلقته يأتي بصورة جميلة جدا لليل فيقول:
“وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف إعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل“
ومن ناحية أخرى نرى التصور السلبي لليل وكأنه همّ شديد، كما جاء عند بشار بن برد إذ يقول:
“أضل النهار المستنير طريقه
وما لعمود الصبح لا يتوضح
وطال عليَّ الليل حتى كأنه
بليلين موصول فما يتزحزح“
يرى محمود في هذا المقطع الليل كما يريد هو، فيرى فيه “نهايات هذا الممرِّ الطويل على باب إحدى المُدُنْ” أي يرى فيه حالة إيجابية وهي نهاية الممر الطويل الذي سيوصل إلى بر الأمان وعندها سيرمي مفكرته، التي تحتوي على ذكريات ماضيه في أحدى المقاهي على الرصيف وهكذا سينتهي الغياب ويجلس على مقعد فوق إحدى السفن ويخرج في نزهة.
4.
“أرى ما أريدُ من الروح: وَجْهَ الحجرْ
وَقَدْ حكّهُ البرقُ، خضراءُ يا أرضُ… خضراءُ يا أرض روحي
أما كنتُ طفلاً على حافة البئْر يلعبُ ؟
ما زلتُ ألعب…. هذا المدى ساحتي، والحجارةُ ريحي“
يتحدّث في هذا المقطع عن روحه المتعلّقة بماضيه في البروة. حجارة البئر ومياهها تردّ له روحه، يلمع الحجر عندما يحكُّه البرق فتمطر السماء وتخضّر الأرض، الأرض التي هي بمثابة روحه. رغم غربته ما زالت الريح تبعث له من هناك كلّ ما يريد أن يراه، الريح الواصلة إليه والتي قد لامست تلك الحجارة، حجارة البئر. ولا ننسى التماهي بين الارض والشاعر فكلاهما اخضر لأنهما ارتويا من ذلك الماء الهاطل من السماء المبرقة.
5.
“أرى ما أريدُ من السلْم… إني أرى
غزالاً وعشباً، وجدول ماءٍ… فأغمض عينيّ :
هذا الغزال ينامُ على ساعديّ
وصيَّادُهُ نائم، قُرْبَ أولادِهِ في مكانٍ قصيّ“
اقل شيء ممكن فعله هو ان نعيش على الامل، وليت نبوءةأشعيا، التي يتناص معها هذا الشطر من المقطع “هذا الغزال ينامُ على ساعديّ وصيَّادُهُ نائم، قُرْبَ أولادِهِ في مكانٍ قصيّ”، ليتها، على الرغم من أجوائها الخيالية، تتحقق :”فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ، وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالْمُسَمَّنُ مَعًا، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا.
وَالْبَقَرَةُ وَالدابةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلاَدُهُمَا مَعًا، وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْنًا.
وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوَانِ…..“(اشعيا 11، 6-8)
هذه هي صورة السلم المنشود.
6.
“أرى ما أريدُ من الحرب… إني أرى
سواعدَ أجدادنا تعصُرُ النبع في حَجَر أخضرا
وآباءنا يَرثُون المياه ولا يورثون، فأُغمض عيني :
إنَّ البلادَ التي بين كفيَّ من صُنْع كَفّيّ“
الحرب: أصوات طائرات، قذائف، نار، دماء، بيوت مهدومة، صراخ، روائح الدخان والجثث المتعفنة وغيرها. هنالك من يرى في الحرب بطولات وانتصارات وإعادة حقوق. ماذا يرى الشاعر في الحرب “سواعد أجدادنا تعصر النبع في حجر أخضرا” أي أقوياء ومقاومون وذوو همم ويريدون الانتصار والسيطرة وكما قال نيتشة الفيلسوف الألماني:” أقوى وأسمى إرادة في الحياة لا تتمثل في الكفاح التافه من أجل الحياة ، وإنما في إرادة الحرب ، إرادة السيطرة” ويقول “أحب فقط ما كتبه الإنسان بدمه” والانتصار في الحرب يجلب السيطرة التي تجلب الحياة. وعندما يغمض الشاعر عينيه يدرك “ إنَّ البلادَ التي بين كفيَّ من صُنْع كَفّيّ“. الإنسان هو من يصنع بيته ووطنه وبلاده ويجب أن يلقي جانبا الاتكال على غيره.
7.
“أرى ما أُريدُ من السجن: أيَّامَ زهرة
مَضَتْ من هنا كي تدلَّ غريبين فيّ
على مقعد في الحديقة، أغمضُ عينيّ:
ما أوسع الأرض! ما أًجمل الأرض من ثُقْب إِبرةْ“
موضوع هذه الرباعية هو السجن. ينظر شاعرنا إلى السجن ويرى ما يريد ويؤكد خاصية رؤيته باستعماله ضمير المتكلم وكأنه يقول لنا: أنا أرى ما أريد وانت تستطيع ان ترى ما تريد. ماذا يرى من السجن؟ إنه يرى أيام زهرة والزهرة هنا هي استعارة لفترة الشباب ويبدو ذلك من كلمة “أيام” ونتساءل: من يقبع في السجن؟ طبعا الغالبية هم من الشباب. ولماذا يقبعون في السجن؟ فيجيب شاعرنا: كي يدلونا على مقعد في الحديقة وهذه استعارة لظروف مثالية خارج السجن أي ان السجناء دخلوا السجن كي يغيروا حياتنا إلى الافضل، كي ينقلونا من السجن الى الحديقة. وعند ذلك يغمض الشاعر عينيه كي يشغل بصيرته أي رؤياه الحلمية، فماذا يبصر آنذاك؟ يبصر كمْ كبير وواسع العالم خارج السجن ويبصر جمال العالم الكبير من خلال ثقب إبره أي من داخل السجن. والشطر “ مَضَتْ من هنا كي تدلَّ غريبين فيّ” تحتوي على موتيف الغريب الذي يرمز إلى الغياب القسري ما يتماثل مع السجن.
8.
“أُرى ما أُريدُ من البرقِ.. إِني أَرى
حقولاً تفتت أغلالَها بالنباتات، مَرْحى!
لأُغنية اللوز بيضاءَ تهبط فوق دخان القرى
حماماً… حماماً نقاسمه قُوتَ أَطفالنا“
الجميل في هذه الرباعيات أن الشاعر يعرض شيئًا ومن ثمينسب له صورا تكون جزءًا من هذا الشيء ولكنها بالرغم منكونها جزءًا منه إلّا أنها تمثّل ما يذكّر الشاعر بهذا الشيء، وبكل بساطة تكون هذه الصور غايةً في الإبداع والروعة.وهنا فهو يعرض البرق (يمكن أنه يقصد فيه بدلًا للشتاء) ومايلي البرق هو الرّعد ومن ثم المطر الذي يروي الأرض فتنبتالنباتات بالحقول بعد أن كانت هذه الحقول جافة مقيّدة، وهنا نراه يصف صورة صاخبة لأنه يذكر “تفتيت” الأغلال أوالقيود فلا بدّ من أن نتخيّل ضجيج الرّعد وقوة الأمطاروغزارتها للحصول على مثل هذه النتيجة. فيقول “مرحى” لأن المطر يرمز للخير والتجديد والتحرّر من القديم.
والصورة الثانية التي يصفها هي بتفتّح زهر اللوز الذييزهر في الشتاء أيضًا، فيقول المثل الشعبي: “يا لوز يامجنون بتزهر في كانون” فيكون أبيض اللون كالحمام الذييهبط فوق القرى التي يوقد أهلها الحطب نارًا ليتقوا بردالشتاء، فيعتلي الدخان في القرى في تلك الأيام.. وفي نهايةالبيت لا بدّ له أن يمرّر قيمة إنسانية فيتحدث عن التفكيربالغير حين ذكر مقاسمة القوت بين الأطفال والحمام ، والحمام موتيف عند درويش يرمز إلى السلام والطمأنينة والعشاق.
9.
“أرى ما أُريدُ من الحُبّ ... إني أرى
خيولاً تُرَقِّص سهلاً، وخمسين غيتارةً تتنهَّدْ
وسرباً من النحل يمتصُّ توت البراري، فأُغمض عينيّ
حتى أرى ظَّلنا خلف هذا المكان المُشَرَّدْ“
كيف يرى الحب؟ يرى الحب كما يريد هو ، ورؤيته للحب عكس العادة، وهي مكونة من صورتين متناقضتين: خيالية وواقعية. الصورة الخيالية، هي أنه من الطبيعي أن ترقص الخيول في السهل، ولكنه يرى بان الخيول استطاعت أن تجعل السهل يرقص، والغيتارات تعزف بحنية كبيرة لدرجة أنها تتنهد كالعاشق بعزفها وهذه عملية “تأنيس” وتعنيإسناد الخصائص والصفات البشرية إلى الجماد والحيوانوالظواهر الطبيعية . أما الصورة الواقعية التي يراها هي: “وسرباً من النحل يمتصُّ توت البراري”. وفي هذه الحالة المركبة يغمض عينيه ليرى بواسطة بصيرته اكثر عمقا، فماذا يرى؟ “أرى ظَّلنا خلف هذا المكان المُشَرَّدْ“، له ولحبيبته ظل واحد ولكن في مكان مشرد أي منفي أو غريب ويصعب تحقيقه.
جميلة هي الصورة ولكنها تدل على حزن داخلي ما، فهنا أيضًا يمكن تفسير رؤيته للخيول التي ترقّص السهل، فهي خيول جامحة نوعًا ما، وبالمقابل هناك الغيتارات التي تتنهد، فهذا يمكن أن يصف حال المحب الذي يعيش حالة تناقض ما بين حركة المشاعر القوية (الجامحة) ولوعة الحب (فينتج التنهد). ومن ثم يرى النحل الذي ينتج العسل، فيمكن أن نقول أنّه بالرّغم من التناقض الذي يعيشه المحب هناك الطعم الجميل لهذا كله. وظله الواحد مع حبيبته هو الحل ليجمّل التشرّد، والظل يرمز إلى الإصرار والتحدي والقدرة على مراوغة الموت والإفلات منه (حسين، 2012)
10“
أرى ما أريدُ من الموت: إني أُحبُّ، وينشقُّ صدري
ويقفزُ منه الحصانُ الإروسي أبيضَ يركض فوق السحابْ
يطير على غيمة لا نهائية ويدور مع الأزرق الأبَديّ…
فلا توقفوني من الموت، لا تُرْجعوني إلى نجمةٍ من ترابْ“
الموت هو أكثر الموتيفات تكرارا عند الشاعر على الإطلاق(حمزة، 2012) ويرتبط بموتيفات أُخرى مثل الشهيد والمنفى والاغتراب، فهو في هذا المقطع يعلن أنه لا يخافه لأنه يحب وهذا الحب يشق صدره، مَكْمَن الحب، ويقفز منه الحصان الإروسي، حصان العشق، الأبيض ويحلق عاليا فوق السحاب راكبا على غيمة تدور في الأزرق الابدي أي السماء، ويعبر عن رغبته بالاستمرار في التحليق وعدم رغبته بالعودة إلى الارض.
11
“أرى ما أُريدُ من الدم: إني رأيتُ القتيلْ
يخاطب قاتِلَهُ مذ أضاءتْ رصاصتُه قَلْبَهُ: أنت لا تستطيعْ
من الآن أن تتذكر غيري. قتلتُك سَهْواً، ولن تستطيعْ
من الآن أن تتذكَّر غيري… وأن تحمل وردَ الربيعْ“
كانت رموز الدم في السابق بين القبائل العربية تشير إلى الشرف والثأر والقبيلة، والتي كانت تردد طويلاً قول الشاعر قوله تأكيداً على رموز الدم:
“لا يسلمُ الشَّرفُ الرَفيعُ من الأذى *** حتى يُراقَ على جوانبهِ الدَّمُ“
وكثيرون، وربما حتي ايامنا، يحملون نفس الفكرة ويربطون أمورا عديدة بالدم، فكان الانتصار والتحرر والحفاظ على العائلة والدين لا يتحقق إلا بيد مضرجة بالدم.
الدم عند درويش هو موتيف يدل على الضحية والموت، والغضب، وهنا ماذا يرى الشاعر من الدم، هو يرى ما يريد. يصبح الدم دالا على انتصار الموت والحياة:
“إني “رأيتُ“ القتيلْ يخاطب قاتِلَهُ مذ أضاءتْ رصاصتُه قَلْبَهُ” رأيت فعل ماضٍ للإشارة إلى حدث ماض، وهذا الشطر هو تناص داخلي مع “تذكرت أن المنازل تنأى، وأن الحياة تقل، وأن القتيل يخاطب قاتله إن أضاءت رصاصته قلبه: أنت لا تستطيع من الآن أن تتذكر غيري ” في قصيدة “يأس الليلك“ (طنوس وبربارة، 2017).
الفكرة الاساس هنا أنّ القاتل منذ الآن لن يستطيع أن يتذكّر غير القتيل، الذكريات ستلاحقه، ستلاحق القاتلوقتيله أيضًا، لأنّه لن يتذكّر غيره، وبهذا يحاصر القتيل القاتل، يحدّ من حريّته، فيتساوى القتيل بالقاتل.
12
“أرى ما أُريدُ من المَسْرَح العبثيِّ: الوحوشْ
قضاةَ المحاكم، قُبَّعةَ الإِمبراطور، أقنعةَ العصر،
لونَ السماء القديمة، راقصةَ القصر ، فوضى الجيوش
فأَنسى الجميع، ولا أتذكَّر إلا الضحية خلف الستار“
التذكر هو موتيف يدل على البقاء ويحافظ على ذات الشاعر وشعبه. هنا هو ينسى كل شيء ويتذكر فقط الضحية التي لم يسمع عنها أحد. طنوس وبربارة (2017) يقولان “التذكّر يعني ما خُزِّن في الذاكرة ورقد منسيّا لفترة، منتظرًا ما يحثّه على معاودة الطفو على سطح الحاضر، التذكّر يحملُ في طيّاته نسيانًا مؤقّتًا وظهورًا مفاجئًا. التذكّر يحمل ثنائيّة الزمن، فهو فعلٌ حاضر لتجربةٍ ماضية، والتذكّر لا يحدث عبثًا، فعلى الغالب يكون نتيجة محفّزٍ ماديّ كالرائحة والصوت والصورة واللمس، أو نتيجةَ محفّزٍ شعوريّ، إحساسٍ ما كاليأس في عتبة النصّ، يمكن أن يؤدّي إلى التذكّر“، في هذا المقطع محفز التذكر هو كل ما يحدث حول الشاعر: أصبحت الوحوش قضاة محاكم، يدور الحديث حول قبعة الإمبراطور نابليون وكيف لم يستطع اختراق أسوار عكا وكيف ألقى قبعته إليها لتدخل هي، أقنعة القصر مما يعني أقنعة على وجوه القادة، لون السماء القديمة وراقصة القصر وفوضى الجيوش- كل هذا الاستثناء الموجع يؤدي إلى نسيان الشاعر كل شيء ويتذكر فقط الضحية المخفية والمختبئة خلف الستار، وهي من يجب أن نتذكرها ونهتم بها.التذكّر جاء بضمير الأنا “أتذكر” ، فالتجربة ذاتيّة يعرضها الشاعر بستة مشاهد مسرحيّة-عبثية:
هذه المشاهد الستة مليئة بالحركةً : حركة الوحوش، إلقاء القبعة، أقنعة التمثيل، لون السماء واللون يرمز إلى الحركة، الرقص والفوضى. هذه الحركة أغضبته على ما يجري من ظلم على الضحية الصامتة والتي تحول جلَّ تفكيره فيها.
13
“أرى ما أُريدُ من الشعر: كُنّا قديماً إذا استُشْهِد الشعراء
نُشَيِّعُهُمْ بالرياحين ثم نعود إلى شعرهم سالمين
ولكننا في زمان المجلات والسينما والطنين نهيل التراب على شعرهم ضاحكين
وحين نعود نراهم على بابنا واقفين“
كان الشعراء قديما ملتزمين بقضايا شعبهم وكانوا مناضلين ويستشهدون احيانا، والشهيد هو رمز للتضحية بنفسه من أجل شعبه لمستقبل افضل ومقاوم للظلم من اجل الحرية والعدالة. يطرح الشاعر في هذا المقطع مقارنة بين الشعراء وشعرهم قديما وبين الشعراء وشعرهم في ايامنا إذ يقول: كان الشعراء قديما مناضلين من أجل شعوبهم وإذا استشهد شاعر كانت الجماهير تشيِّعه بالرياحين وتودعه وبعدها يعودون لقراءة شعرهم الخالد. أما في ايامنا في زمان المجلات والسينما والطنين كَثُر الشعراء ونحن نُهيل التراب على شعرهم لدفنه بدون حزن وحينما نعود نجدهم أمامنا ولا يتنازلون وبكل ثمن يريدوننا أن نقول إنهم شعراء.
14
“أرى ما أُريدُ من الفجر في الفجر… إني أرى
شعوباً تفتِّشُ عن خبزها بين خبز الشعوبْ
هو الخبز، يَنْسُلُنا من حرير النعاس، ومن قُطْن أحلامنا
أمن حَبَّة القمح يبزغُ فجر الحياة… وفجر الحروبْ؟”
يدل الفجر على مضي ليل وبزوغ يوم جديد بكل أنواره ومظاهره الجميلة ففيه أمل لمستقبل أفضل وأجمل وربما يبشر بالخلاص. هذه الصورة الشعرية دالة على توجه ونظرة إيجابية وجميلة عند الشاعر وتشعره بانتصار قادم. وهو يريد ان يرى الفجر، فجر الحرية والاستقلال والانتصار في أكثر وقت ملائم وهو ساعة الفجر. الفجر الأولى رمزية- حُلمية والثانية مادية- واقعية-زمنية.
كلمة ينسل نستعملها للقماش، وهو يقول بأنّ الخبز هوالحقيقة التي تربطنا بالواقع، لذلك يسحبنا من حرير نعاسناوقطن أحلامنا ليوقظنا ويضعنا أمام الواقع المعيش.
الحلم هو وسيلة تعويض عما نفقده في الواقع وربما محاولة لتحسين المستقبل.
حبة القمح في هذا السؤال الإنكاري “أمن حَبَّة القمح يبزغُفجر الحياة… وفجر الحروبْ؟” تعبر عن الحنين إلى الوطن والارض والقرية الفلسطينية، فهي تعطي الحياة وأحيانا تُفجر الحروب.
15.
“أَرى ما أُريد من الناس: رغبتَهمْ في الحنينْ
إلى أيِّ شيء. تباطؤهم في الذهاب إلى شُغْلِهمْ
وسُرْعتَهُمْ في الرجوع إلى أهلهمْ ...
وحاجتهم للتحيِّةِ عند الصباح …“
اكثر بيت بين الرباعيات واقعية: الرغبة في الحنين لأيشيء، مجرد الحنين فالحنين يدل على محبتنا للشيء ولكنفي نفس الوقت يشير الى بعدنا عنه ولذلك نَحِنُّ إليه. وهو موتيف درويشي فيه دلالة الشوق للغائب، يكون الحنين إلى أشياء عديدة: إلى الأم والبيت والارض والحبيبة وغيرها وفي هذا المقطع يؤدي الحنين إلى عدم رغبة الناس في الذهاب الى شغلهم وينعكس ذلك بذهابهم البطيء، ورغبتهم العودة السريعة الى بيوتهم، فإن بيت الانسان قلعته، ورغبتهم للتحية.، حيوا بعضكم! فالتحية عرفاً هي من انواع التكريموالاحترام الذي يستعمله الناس عند ملاقاة بعضهم البعض،أو في رسائل يكتبونها، أو ما أشبه ذلك، فالتحية هي الدعاءبالحياة ، فيقال : حياك الله ، أي أبقاك وهي أعم من السلام، فالسلام هو نوع من التحيات، والتحية تبعث الأمل وتزرعالمحبة ومن هنا اهميتها الكبرى.
ما بين الرؤية والرؤيا:
ماذا يرى فيزيائيا وماذا يرى مُتخيلا؟
من الحقل – جدائل قمح
من البحر – هبوب النوارس
من الليل – نهايات الممر الطويل
من الروح – وجه الحجر
من السلم – غزالا وعشبا وجدول ماء
من الحرب – سواعد أجدادنا
من السجن – أيام زهرة مضت
من البرق – حقولا تفتت أغلالها بالنباتات
من الحب – خيولا تُرقِّص سهلا
من الموت – الحصان الأروسي
من الدم – رايت القتيل
من المسرح العبثي – الوحوش قضاة محاكم
من الفجر – شعوبا تفتش عن خبزها
من الناس – رغبتهم في الحنين
وأخيرا
قمنا في هذا المقال بمحاولة لفهم مضمون القصيدة اعتمادا على الموتيفات المختلفة في شعر محمود درويش ودلالاتها المختلفة والتي تكون لبعضها دلالات متناقضة، فالشاعر يرى أحيانا المطر كرمز للخير والحياة وأحيانا كرمز للشر وللموت (مثلا إذا كان سببا للموت بسبب الفيضانات)، ويرى البحر أحيانا كرمز للاتساع والمسافات والجمال وأحيانا أُخرى يراه رمزا للاختناق والضائقة، يعود كل هذا على الحالة الزمكانية التي كتب فيها الشاعر قصيدته. جاء هذا بعد التمهيد واللازمة اللذين يشكلان مدخلا للقصيدة، واعتمادا على هذا قمنا بطرح إضاءات توضيحية لمقاطع القصيدة كل على انفراد وأخيرا وضعنا قائمة ما بين الرؤية والرؤيا وهي بمثابة تلخيص للنقطة الأساس في القصيدة.
n.tannus@gmail.com
المصادر
نُشر المقال في:
جريدة الاتحاد ، الملحق الصفحات 11 و 15 . 23.11.2018 حيفا.